في شوارع الدنمرك المنظّمة النظيفة، كانت تسير حافلةٌ عامةٌ/ باص، ينقلُ المواطنين من مكان إلى مكان. يقود الباص رجلٌ أسود تبدو عليه الجدية وحبُّ العمل. يتوقف الباص في إشارة، فيصعد رجلٌ يحمل آلةً موسيقية، ساكس، وفجأة بدأ العزف على آلتــه مقطوعــة: ”عيــد الميـــلاد”، وشرعت سيدةٌ في الغناء. وسرعان ما شاركها الغناءَ كلُّ ركّاب الحافلة، وقد انتظم غناؤهم في مقطوعة غنائية واحدة. اندهش السائق وظل يرمق، بترقّب، بين الحين والحين صالونَ الحافلة بمَن فيه، في المرآة المثبتة أمامه. عيد ميلاد في الباص؟! يا المجانين! صحيح أن السائق الأسود، الصومالي المسلم التقطت أُذنُه اسمَه: ”مختار”، بين كلمات الأغنية، لكن ذلك لم يزده إلا اندهاشًا! على إنه استمر في طريقه، إلى أن وصل المحطة التالية. فوجد حشدًا من البشر يسدون الطريق عليه، ويحملون لافتات وأعلامًا ملونة عليها عبارات تقول: عيد ميلاد سعيد يا مختار. سيماءُ الدهشة التي ارتسمت على وجهه، وانفتاحُ عينيه على اتساعهما
كمن يرى العجب العُجاب، والابتسامة الوجلى التي صاحبتها ”شهقةٌ” غير مصدِّقة، لا يمكن للكلمات أن تصفها، مهما بلغتْ من بلاغة وبيان. لابد أن تشاهدوها بأنفسكم، مثلما شاهدُتها أنا، لكي تصلكم ويصلكم ما اعتمل في قلب ذلك العامل البسيط الذي يكدّ من أجل لقمة العيــش في بلاد جادّة لا مكان فيها لخامل أو لعاطل.
لكي تشاركوني غبطتي بذلك الحدث الفريد الملهم، بوسعكم أن تشاهدوا الفيلم القصير هنا على هذا الرابط، تحت أيقونه Tube:http://bedrebustur.dk
القصةُ باختصار أن اليوم موافق عيد ميلاد هذا السائق. وشأنه شان كل الكادحين في هذا العالم، لم يتذكر الرجلُ عيد ميلاده. وإن تذكر فلن يعيره أيَّ اهتمام. ارتدى زيّ العمل ونزل في الصباح إلى عمله كما يفعل كل يوم. ربما حتى دون أن يهنئه أحد من أفراد أسرته: ”كل سنة وأنت طيب!”، هذا إن كانت أسرته معه في ذلك البلد الأوروبي. لكن مؤسسة النقل العام، التي يعمل بها، لديها ملفٌّ يضم كافة بياناته بوصفه من موظفيها. وبما أن الرجل تغافل عن عيد ميلاده ولم يفكر في أن يأخذ إجازة ليحتفل به، مفضّلا العمل والنظام والمسؤولية؛ فقد قررت المؤسسةُ أن تكافئه على نحو مبتكر وتحتفل بعيد ميلاده على الطريق، لتكون مفاجأةً ارتجّ لها فؤاد الرجل فجلبت الدموعَ إلى عينيه، بينما يعانقه رؤساؤه وزملاؤه فيما المارّةُ والركّاب يلوحون بالرايات الملونة التي تحمل اسمه ”المسلم”: مختار.
أولئك بشرٌ يفهمون الحياة على نحو مختلف عما نفهمها نحن العرب. إنهم يتفانون في العمل والجدية، مثلما يتفانون في الحياة وفي الاستمتاع بها. يقدسون وقتَ العمل فيهبونه كاملا للعمل، ويقدسون وقتَ الراحة، فيهبونه كاملا للراحة، ويقدسون وقتَ العبادة، فيهبونه كاملا للعبادة.
لا خلطَ أوراق، ولا مجال للشكلانية التي نجيدها نحن في معظم الأحيان. فلا نحن نعملُ بجد، ولا نحن نستمتعُ بحياتنا بجد. نمسُّ الأمورَ مسًّا طفيفًا، دون عمق، فلا نخلصُ لشيء! وهنا أسمع قارئًا يقول: أولئك الدنمركيون هم ذاتهم من رسموا تلك الصور المسيئة للرسول الكريم. وأقول لهم: إنما كانوا يرسموننا نحن. فهم، مثلنا، لم يروا الرسول عليه الصلاة والسلام، ليحاولوا رسمه أو النيْل منه. لكنهم، دون شك، رأونا نحن، سواء في بلادنا أو في بلادهم، ونحن نقدم صورةً مشوّهة للعرب وللمسلمين. قليلٌ منّا يجدّون ويعمرون بلادهم الغربية بالعلم والعمل، فينالون احترامهم وتقديرهم، وكثيرون جدًّا يعيثون في بلادهم فسادًا وسلوكًا معيبًا، يسيء لنا جميعا كخير ما تكون الإساءة. لستُ أبرئهم من خطـأ وكذلك، بالمقابل، لا أنوي أن أبرئنا من أخطائنا. فقد اعتدتُ أن أرى الجمالَ جمالا، ولو أتاه أجنبيٌّ غريب أو حتى عدوّ، وأن أرى القبحَ قبحًا، وإن أتاه أخي أو أبي أو ابني. ولأنني حريصةٌ على صورتنا العربية التي نعمل بكل جهدنا على تشويهها في يومنا وليلنا، يحقُّ لي أن أغار. وتلك القصة، حكاية السائق مختار ملأت قلبي بالغيرة، حينما أقارن بينها وبين قمعنا وعدم احترامنا لأولئك البسطاء من الطبقة البروليتارية الكادحة، الذين على سواعدهم فقط، تسيرُ حياتنا، ثم لا نعبأ حتى بأن نقول لهم: شكرا. قالت لي د. عبلة الكحلاوي، الداعية الإسلامية الأشهر: نحن البشرَ جميعا، مسلمين ونصاري ويهودًا سوف ندخل الجنة بأعمالنا. فقط بأعمالنا.
عن المصرى اليوم