فاطمة ناعوت
كيف خدعتُ أمى .. لقراءة الكتب الممنوعة؟
بقلم/ فاطمة ناعوت - الكاتبة الصحفية والشاعرة الإعلامية المتميزة
أكّدت الأبحاثُ العلمية والميدانية أن كبارَ السنّ النُشطاء ذهنيًّا قليلا ما يُصابون بمرض آلزهايمر، مقارنةً بأشخاص لم يعتادوا إعمال عقولهم وتنشيطها على مدى أعمارهم. وتُعدُّ القراءةُ وقايةً مؤكدة من أمراض الشيخوخة الذهنية مثل الخَرَف والنسيان والتراجع العقلى وفقدان المقدرة على التحكم فى الوظائف الحيوية. لهذا وجهت مجلة «الوُجهةُ الطبية» الفرنسية: Destination Santé نصيحتَها لكبار السنّ قائلةً: «اقرأوا الكتبَ، الصُّحفَ، المجلات. العبوا الشطرنج، ولا تستسلموا أبدًا للكسل!» وفى تلك الكلمة الموجزة تتلخّص نتائجُ دراسات مكثفة قام بها العلماء، خرجوا على إثْرِها بتوصيات تؤكد أن على الإنسان أن يُشغِّلَ ويُفعِّلَ خلاياه الذهنيةَ والعصبيّة باستمرار، وطيلةَ عمره. فخلايا الدماغ ليست إلا عضلاتٍ كأى «عضلة» فى الجسم؛ تفقدُ قواها وتعجزُ عن أداء وظائفها إن رَكنَتْ إلى الكسل والرخاوة، فيما تنشطُ وتُستحَثُّ قواها إن هى مُرِّنَتْ وأُجهِدَت فى العمل والتدريب المستمرين. تمامًا كما يُمرّن الرياضيون عضلاتهم بالركض اليومى والإحماء والتريّض. فالدماغُ، كما أكّد الباحثون، شأنه شأنَ الساقين والذراعين والخِصْر، يحتاجُ إلى تمارينَ دائمةٍ، من أجل إبعاد شبح آلزهايمر وسائر الأمراض العقلية والجسدية الأخرى. وربما لهذا أطلقت العربُ اسمَ «رياضيات» على الـ Mathematics التى تضمُّ علومَ الجبر والتفاضل والتكامل وحساب المثلثات واللوغاريتمات والهندسة الفراغية والهندسة الديكارتية إلخ؛ ذاك أنّ كل ما سبق ليس إلا «رياضةً» للذهن، مثلما الرياضة الجسمانية للبدن. وهنا نقطةٌ تُحسَبُ لعبقرية اللغة العربية.
وفى اليوبيل الذهبى لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، فى ثوبه الجديد ومكانه الجديد، الذى يجرى هذه الأيام على أرض القاهرة مثل جدول ثرىّ هادر من الذهب السائل، أتذكّر دراسة أجرتها الأمم المتحدة منذ عدّة أعوام حول معدلات المطالعة بين مختلف شعوب العالم. خَلُصَت النتائج إلى أن العالم العربى بطوله وعرضه، لا يتجاوز معدلُ قراءة الفرد فيه أكثر من (ربع صفحة) سنويًّا! نسبة مخيفةٌ ومحزنة!، ورغم ذلك، فإن مشاهِد الزحام فى معرض القاهرة الدولى للكتاب هذه الأيام، وتوافد الرحلات المدرسية المنظمة لزيارة المعرض خاصة فى أيام الجمعة، ومعدلات البيع التى سألتُ عنها الموزعين فى أجنحة المعرض، تُبشِّر بالخير، وتشى بأن الشعب المصرى بدأ يعود إلى «عِزّ» عادة القراءة التى كانت من صميم يوميات آبائه وأجداده. وأتمنى أن أشهدَ اليومَ الذى تغدو فيه مقولة «موشى ديان» الخبيثة: «العربُ أمّةٌ لا تقرأ!»، كلمة مُتحفية مدفونةً فى سراديب النسيان.
ويتزامنُ معرض الكتاب بالقاهرة دائمًا مع بدايات كل عامٍ جديد؛ وكأنما ليغسلَ متاعبَ عام مضى مشحونٍ بالكفاح والوجع، لندخل العام الجديد وقد تطهّرنا من أحمال الشهور الثِّقال. نعم، ليس مثل «الكتاب» دواء للتعب والهموم.
لكن للأمهات عادةً رأيًا آخرَ، حين يرين أن قراءة كتاب خارج إطار المناهج الدراسية تُعدُّ «تهديدًا» للتفوق الدراسى. كانت أمّى رحمها الله من هذا الفصيل الشهير من الأمهات اللواتى يؤمِنّ أن الحصول على الدرجات النهائية فى سنوات الدراسة هو غايةُ المنتهى، ومُنتهى المُبتغى. وكانت زيارة معرض الكتاب هى «المكافأة» التى ننالها فى إجازة نصف العام بعد شهور من حُكمٍ ديكتاتورى طاغوتى من أمى بالاستذكار ليل نهار طوال الوقت، حتى وقت تناول الطعام. ولكن «شراء» الكتب لا يعنى السماح «بقراءتها». فدائمًا ما يؤجلُ هذا السماح، إلى أجل غير مسمّى: بعد اختبارات الشهر، بعد امتحانات نهاية العام، بعد صدور النتيجة والحصول على الدرجات النهائية.. إلخ. وحين تأتى العطلة الصيفية وشهادة التفوق الساحق الماحق المنشود، أجد مكتبى الصغير وقد رُصَّتْ فوقه كتبُ مناهج العام المقبل للانتهاء منها قبل بداية العام الدراسى الجديد! فمتى وكيف وأين أقرأ ما لدىّ من كنوز الكتب، فى ظلّ أمٍّ تحظرُ أيَّ كتاب إلا «كتاب المدرسة»؟!. وكانت «الحيلة الماكرة»: تخبئةُ الكتاب المنشود داخل الكتاب الدراسى، وقراءته خلسةً. وكانت الأزمة فى الكتب الضخمة، التى لا تستوعبها الكتبُ المدرسية النحيلة. فقطّعتُ، وأنا أبكى، كتاب «الفردوس المفقود» إلى «فراديسَ» صغيرة، خبئتُها فى صندوق اللعب تحت سريرى. وكلَّ ليلة أدسُّ «فردوسةً» فى كتاب التاريخ (الذى لا أحبه)، وكأننى أعاقبُ «مِلتون» على ضخامة ملحمته الشعرية. ولا أعبأ بنظرات الغضب التى كانت تتطاير من عينيه الزرقاوين وهو محبوسٌ فى الكتاب المدرسيّ المُضجر. وحين كبرتُ قليلا عَزَّ عليَّ تقطيع «الإلياذا والأوديسا»! فكان علىّ ابتكار حيل جديدة، سأحكى لكم عنها فى مقال قادم. رحم الله أمى وأعزّ الوطن بمَن يحبّه. «الدينَ لله، والوطنَ لمن يحبُّ الوطن».
إهداء من الأستاذة فاطمة ناعوت عن جريدة المصري اليوم