فاطمة ناعوت
أشهرُ صفقة باب فى التاريخ
بقلم/ فاطمة ناعوت - الكاتبة الصحفية والشاعرة الإعلامية المتميزة
كلّما صادفتُ فتاةً حُرّةً تأبَى أن تكون دُميةً بكماءَ فى يد طفل يلهو، أو قطعةَ حلوى خرساءَ لا تعرفُ كيف تهشُّ عن جسدها الذبابَ والبعوض المُحوّم حولها، تذكّرتُ «نورا»، التى اختارها «هنريك إبسن» لتكون بطلة مسرحية «بيت الدُمية»، صاحبة أشهر صفقة باب عرفها الأدبُ. خرجت من باب الأسْر «الدُميوى»، بيت الدُمية، وصفقتِ البابَ وراءها ومضت دون أن تنظر إلى الوراء.
ملهمةُ الشعراء والمفكرين والنقّاد، منذ نهاية القرن ١٩، وحتى اليوم. والمسرحيةُ فى الأساس منشغلةٌ بنمط النساء الُمنسحقات المأسورات بجمالهن، ثم محاولاتهن الانعتاق من دور «الدُمية الحسناء» لتغدو «إنسانًا»، راضيةً بالفاتورة الباهظة مقابل ذلك الاختيار الصعب. الجميلةُ «نورا»، تركت وراءها كلَّ ما يُذكّرها بأنها دميةٌ فى يد آخرين، وتمرّدت على خرافة أنها مخلوقةٌ مسلوبةُ الإرادة، غيرُ جديرة بالحرية وتحمُّل المسؤولية كإنسان له وزن ودورٌ فى المجتمع، بعدما عاشت سنواتٍ مؤمنةً بتلك الخرافة. كانت«نورا» مهزوزةً مهلهلةَ الشخصية أضعفَ من مواجهة المخاطر خارج جدر «بيت الدُمية» الآمن الرغد.
قبعت فى البيت شابّةً جميلة مُدللة تطيرُ بين غرف البيت مثل عصفور رشيق مُلوّن، لا يقوى إلا على الزقزقة والشقشقة والتسرية عن الرجل والترفيه عن الأطفال. فما الذى جعلها تُقرّر أن تقومَ بتلك الثورة المفصلية؟ مرض زوجُها «هملر» بمرض خطير، فسعتْ إلى الحصول على المال لعلاجه وإنقاذه من الموت، ولو عبر طريق ملتوية. الطريق الملتوية هى لجوؤها إلى صديق الأسرة المحامى كروجشتاد للاستدانة منه بعدما زوّرت توقيع أبيها على إيصال أمانة.
فيقوم كروجشتاد الوغدُ بتهديدها بإفشاء سرها لزوجها، الذى شُفى الآن بفضلها، إن لم تُسانده فى أن يتراجع زوجُها عن قرار فصله من البنك؛ لأنه يسىء استخدام صداقته له كمرؤوس للزوج فى البنك. يعلم الزوجُ بفعلة الزوجة فيُعنفها ويقرر بمنتهى القسوة إنهاء حياتهما الزوجية، ليس من باب الشرف، بل خوفًا على سمعته! وحين يستوثق الزوجُ من أن كروجشتاد قد سحب تهديده وأرسل لهما الوثيقة المزورة، الدليل الوحيد على الجريمة، يحاول هملر استرضاءَ زوجته. لكنها ترفضُ الصفح عمّن جرحَها وباعها رخيصًا، وتهجرُ البيتَ مُخلّفةً وراءها صفقةً مُدوّيةً؛ هزّت أركان الدنيا. ولهذا تقول نورا فى ختام المسرحية مبررة لزوجها عدم غفرانها:
«طوالَ الأعوام الثمانية التى قضيناها معًا، وأنا أنتظرُ معجزةً ما. أعلمُ أن زمن المعجزات قد ولّى، ولكننى كنتُ أنتظر! حتى نزلت بى تلك الكارثةُ، فأيقنتُ أن أوانَ المعجزة قد حلّ. ولم يخطر لى ببال، عندما وصل خطاب (كروجشتاد)، أنكَ سترضخ لشروطه، بل كنت واثقةً أنك ستقول له أذعِ القصةَ على الملأ؛ فأنا لا أبالى، ثم…»، فيقاطعها «هملر»: «ثم ماذا بعد أن أكون قد عرّضتُ باسم زوجتى وجلبت عليها الفضيحة؟» فتستطرد «نورا»، وكأنها لم تسمعه: «ثم تتقدم لتحمل عنى وزرَ المسؤولية قائلا: أنا المذنبُ… وبالطبع ما كنتُ لأقبلَ تلك التضحية؟ تلك هى المعجزة التى كنت أنتظرها وأخشاها يا هملر». ولم تحدث المعجزةُ فخاب ظنُّها فى زوجها.
وهاجم بعض النقاد شخصية «نورا» قائلين إن التى تُقدم على تزوير توقيع والدها لا يمكن الوثوق بقدرتها على القيام بمثل تلك الثورة المجتمعية التى جعلتها ترفضُ موقع الدُّمية وتبرحها إلى موقع الحرية والمسؤولية. وألمحوا إلى التناقض الذى جعل سيدة اقترفت جرمًا يطاله القانون لإنقاذ زوجها من الموت، تريد منه بالمقابل أن يتحمل وزر ما فعلته لأجله، دون أن يخطر ببالها أن زوجها، رغم كونه رئيسا للبنك، ليس مطلوبًا منه أن يكون بطلا إغريقيًّا يصنع المعجزات ويتحمل نتائجها الكارثية التى ستمس حياته ومستقبله. وربما نتفقُ معهم فى أن الفضيلةَ لا تتجزأ. ولكن الفكرة هنا فى تأمل فكرة أن ترفضَ المرأةُ أن تكون عروسَ ماريونيت حسناءَ بليدةً، خيوطُها فى يد الآخرين، وإصرارها على أن تتجاوز تلك البقعة الخاملة، نحو فضاء المسؤولية والفاعلية والالتزام والقيام بدور حقيقى فى المجتمع.
إهداء من الأستاذة فاطمة ناعوت عن جريدة المصري اليوم