فاطمة ناعوت
الأكاذيب التي تجعلنا نرى الحقيقة
بقلم/ فاطمة ناعوت - الكاتبة الصحفية والشاعرة الإعلامية المتميزة
كان الإنسانُ الأول يرهبُ الطبيعةَ ويفزعُ من شراستها. فصنع لنفسه مأوًى من جذوع الشجر؛ ربما كنوعٍ من ردّة الفعل الانعكاسية؛ بأن يحاربَ الطبيعة بأحد بنيها. ثم حفر لنفسه كهفًا في بطن الجبل، فرارًا من الضواري والكواسر، وراح يرسمُ على جدران الكهف صور تلك الضواري الشرسة؛ لكي يجلس في ليله يتأملها في رسومها، فيتقوّى بها عليها! الفرارُ من الخطر يجعل المرءَ في حال من الخوف دائمة، بينما لا يتمُّ دحر الخطر إلا باستحضاره أمام ناظرينا، حتى تخلق ذاكرتُنا البصريةُ علاقةً جدلية دائمة معه، ومن ثَم يُستأنَسُ الخطرُ ويضؤل شيئًا فشيئًا، حتى يتلاشى، فننتصر عليه. لهذا انتشرت في العصر الحديث نظرياتٌ حول علاج أمراض النفس عن طريق الرسم. يأتي المحلِّلُ النفسيّ بورق أبيض ومجموعة من الألوان، يضعها أمام المريض، ويطلب إليه أن يرسم ما يجول في خاطره. وعادة ما يرسم المريضُ مخاوفَه وهواجسه. فإن كان يعاني الوحدةَ رسمها مجسّدة في إنسان منبوذ متروك جانبًا، أو ورقة شجر صفراء أسقطتها الشجرةُ الوارفةُ بأخضرها، وإن كان مغدورًا من حبيبة، رسم أفعى تحمل رأس امرأة فاتنة، وإن ثمة امرأةً تقاسي بطشًا ذكوريًّا، تذكّرت قولة نيتشه: “لا تذهبْ إلى امرأة إلا والسوطُ معك!” فترسمُ سوطًا أو مشنقة أو أنيابًا بارزة، وهلم جرا. الأمرُ على هذا النحو الرمزيّ، لا يعني أن إعمالا للعقل يتمُّ في ذهن المريض، فيخلق، بوعيٍ، رموزًا لما يقلقه. ذاك إنه ببساطة لو كان يعرف ما يمور داخله من هواجس، لهزمها، وانتفى دور الطبيب. لكن الذي يحدث أن العقل البشري مبنيٌّ آليًا، ولا إراديًّا، على العمل بشكل رمزيّ ومجازي. هذا ما أكدّه كتاب “المجازات التي بها نحيا“، Metaphors We Live By، الذي ألّفه أستاذان أمريكيان في علم النفس واللسانيات هما: جورج لاكوف، ومارك جونسون. ويذهبان فيه إلى أن المخَّ البشري غير قادر على العمل دون الاتكاء على الرمز والمجاز. فإن تكلم الإنسانُ عن حوار جدليّ بينه وبين آخر، فإنه يستخدم تعابير من قبيل: لقد انتصرتُ عليه– هزمته في الجدال وحصدتُ ثلاث نقاط– لقد دحرته وقضيتُ عليه– ضربته في الصميم وكسبت أرضًا جديدة، الخ. وجميعُها، كما نرى، مفرداتٌ مستعارة من معجم “الحرب“: النصر– الهزيمة– حصد النقاط– الدحر– القضاء على الخصم– اكتساب الأراضي، الخ! فاستخلص الكتابُ من ذلك أن المخ البشري مجازيٌّ بطبعه، بصرف النظر عن لغة الإنسان أو ثقافته.
التحدي الأكبر الذي يواجه الطبيبَ النفسيَّ مع مريضه، هو التشخيص. فعادة لا يعرفُ المريضُ سببًا حقيقيًّا لمعاناته. هو مكتئبٌ، رافضٌ العالم، غير متكيّف مع الواقع، فاشلٌ اجتماعيًّا، والسلام. أما السبب فمجهول. والعلاج لا يتم إلا بعدما يُخرج المريضُ ما بداخل نفسه، ويطرحه على الطاولة. تمامًا مثلما يحملُ الصندوقُ الأسود في كل طائرة أسرارَها الخطيرة التي أدت إلى سقوطها. الرسم يُخرج مكنونَ الصندوق الأسود البشريّ أمام الطبيب، وبالأساس، أمام المريض ذاته، فيعرف نفسَه، ويُشفى! وهي المهمة الشاقة التي طلبها سقراط من الإنسان: “اِعرف نفسك“! قالها سقراط وهو يعلم أنه يطلب أمرًا عسيرًا يقترب من المُحال، لو نجح فيه المرء، بدأ العلاج. الحكاية ببساطة هي تحويل أشياء هيولية غير مادية ولا محسوسة، مثل: الحزن والقنوط والاكتئاب والشعور باللاجدوى الخ، إلى أشياء مادية ملموسة مثل الورق واللون والتشكيل والتجسيد، فيسهل التعامل معها بالحواس الإنسانية كالبصر واللمس والتأمل، فنقبض عليها، نروّضها، نهذِّبها، نعالجُها، أو نقتلها. فننجو. لهذا قال بابلو بيكاسو: “الفنُّ هو الأكاذيبُ التي تجعلنا ندرك الحقيقة.”
كذلك فنسينت فان جوخ، قال مرّةً: “بالرغم من كل شيء، سوف أنهض من جديد: ألتقط قلمي الرصاص، ذاك الذي هجرته في أعظم لحظات إحباطي، وأستأنف الحياة مع رسوماتي.” هكذا أدرك الفنان الهولندي المأزوم، الذي تناوبته الصراعاتُ النفسية والمِحنُ طوال حياته، أن نجاته ونجواه وخلاصه جميعها تكمن في الريشة وباليت اللون، حتى وإن هزمه الإحباط في الأخير لينهي حياته برصاصة.
في لحظات إحباطكم لا تهربوا إلى النوم أو الإفراط في الطعام، لا تصرخوا أو تحطموا الفازات في بيوتكم، فقط هاتوا بعض الأوراق البيضاء، وبعض أقلام اللون، واملأوا الصفحاتِ رسومًا وشخابيط، فتُخرجوا ما داخلكم من الحزن إلى الورق، ثم مزقوا الورق، فيموت الحزن. هذه وصفة مجرّبة. ارسموا تصحّوا.
إهداء من الأستاذة فاطمة ناعوت عن الرؤية العمانية