وددتُ لو وضعتُ الكلمةَ الأولى: ((تصويب)) بين خمسين قوسًا، حتى تستقرَّ فى الأذهان وتعتملَ فى الضمائر وترتقى بالأرواح. الكلمةُ قالها الرئيسُ فى مؤتمر ميونيخ، وأكّدها بمرادف لها هو: «إصلاح». صفعتنى الكلمةُ كمَن كان شاردًا ثم أفاق على فكرة؛ كما أفاق أرخميدس من معادلاته هاتفًا: «يوريكا». كأنما كنتُ أبحثُ عن هذه الكلمة بين خلايا عقلى وصفحات المعاجم، ولم أهتدِ إليها إلا اليوم. نعم. تلك هى الكلمة الأصوبُ التى علينا اعتمادها فى خطابنا المجتمعى، وعلى الأزهر نقلها من حيّز الكلام إلى حقل التنفيذ. نحتاج إلى «تصويب» الخطاب الدينى، وليس «تجديده». لأن «التجديد» يعنى أن ثمة شيئًا جيدًا وصالحًا ونافعًا، لكننا نجدده ليزداد جمالًا ونفعًا. والشاهدُ أن الحال ليس هكذا.
الخطابُ الدينى الراهن ليس طيبًا ونافعًا لنجدِّدَه. إنما هو مُهينٌ ومُفخّخٌ ومُحرِّضٌ على القتل وحاثٌّ على الإرهاب.
قبل بضعة شهور، حكمتْ قاضيةٌ لبنانية ذكية على ثلاثة من المذنبين بأغرب وأذكى حكمٍ عرفه العالم. المتهمون: «ثلاثة من المسلمين». التهمة: «إهانة السيدة العذراء عليها السلام». الحُكم: «حفظ شطر من سورة آل عمران، ثم إطلاق سراحهم». القاضية مسيحيةٌ اسمُها «جوسلين متّى». تأملوا عبقرية ما صنعت. أولاً انتصرتْ على أهوائها، «فكظمتْ غيظها» ممن أجرموا فى مقدسها. وثانيًا «عفتْ» عنهم فلم تسجنهم بأمر القانون. وثالثًا: «أحسنتْ إليهم»، فجعلتهم يتعلمون أدبيات دينهم ويفقهون كتابَهم الذى لم يَمسّوه. فطبّقتْ تلك القاضيةُ المثقفةُ آيةً من القرآن الكريم تقول: «والكاظمين الغيظَ والعافين عن الناس واللهُ يُحبُّ المحسنين». ذلك التفكير «خارج الصندوق» يُعدُّ لونًا من «تصويب» الأفكار التى نرجو مثلها فى مصر. «مصرُ تحاربُ الإرهاب نيابةً عن العالم»، كما قال الرئيسُ عبدالفتاح السيسى، ولذا فنحن بحاجة مُلحّة إلى «تصويب» الخطاب الدينى، وليس إلى «تجديد» الخطاب الدينى، كما الشائع.
■ أنْ يظهرَ رجلٌ أزهرى على شاشات التليفزيون يقول باطمئنان: «المسيحيون كفّار»، ثم لا يُعاقَب ويعود إلى بيته ليكرّر قولته المفخّخة على صفحته، فيكبِّرُ مريدوه ويتناقلون الرصاصةَ على صفحاتهم وفى مجالسهم، حتى تعمَّ البغضاءُ بين أبناء الوطن الواحد؛ فنحن إذن بحاجة إلى «تصويب» الخطاب الدينى، وليس تجديده.
■ أنْ يُعلّقَ أحدُ محالّ الأطعمة يافطة بذيئة تقول: «مطلوب موظفون، والمسيحيون يمتنعون»، ثم لا يُغلق محلُّه؛ فنحن إذن بحاجة إلى «تصويب» الخطاب الدينى، وليس تجديده.
■ أنْ تختارَ مؤسساتٌ رياضيّة مَن يمثلون اسم مصر دوليًّا، ولا يكون من بينهم لاعبٌ مسيحىّ؛ فنحن إذن بحاجة إلى «تصويب» الخطاب الدينى، وليس تجديده.
■ أنْ يخرجَ رمزٌ إسلاميٌّ ورسمى كبير فى إعلان تليفزيونى قائلا: «تبرّعوا لمستشفى كذا، لأنها تعالج أطفال المسلمين»، ثم لا يعتذرُ ولا يُلفَت نظره؛ فنحن إذن بحاجة إلى «تصويب» الخطاب الدينى، وليس تجديده.
■ أنْ يقومَ معلّمٌ جهولٌ بتوبيخ تلاميذ فصله المسيحيين قائلا: «هو انتو عندكو دين؟!»، وغيرها من الجمل الشبيهة، ثم يستمرُ ذاك المعلمُ فى عمله ولا تتحول الفضيحةُ إلى قضية رأى عام لكيلا يتكرر ذلك الهراء؛ فنحن إذن بحاجة إلى «تصويب» الخطاب الدينى، وليس تجديده.
■ أنْ تضمَّ بعضُ الكتب الدراسية كثيرًا مما يجرح مشاعرَ أبناء الوطن من غير المسلمين، ثم لا يُعادُ فيها النظر؛ رغم تكرار كتابتنا عن ذلك عشرات المرّات؛ وأن يتم تقليص الحديث عن مصر الفرعونية خلال خمسين قرنًا، ثم مصر القبطية المسيحية خلال ستة قرون فى سطرين، وتُفرَدُ الصفحاتُ لمصر الإسلامية ابنة الأربعة عشر قرنًا، فنحن إذن بحاجة إلى «تصويب» الخطاب الدينى، وليس تجديده.
■ أنْ نظلَّ متمسكين بالمادة الثانية فى الدستور المصرى، والتى نعرف جميعًا كيف دخلت عُنوةً بمقايضة لم تُفِد حتى مَن قايض بها، ضاربين بعرض الحائط أبسط قواعد الدساتير التى تنصُّ على «دولة المواطنَة» وليس على «دين مواطنيها»؛ فنحن إذن بحاجة إلى «تصويب» الخطاب الدينى، وليس تجديده.
■ أنْ يكونَ بوسع أى إنسان أن يُكرّر بكل اطمئنان عبارة مثل: «أهل الذمّة» دون أن يُعلَّمَ أن العبارة لا محلّ لها فى مفهوم دولة المواطنة؛ فنحن إذن بحاجة إلى «تصويب» الخطاب الدينى، وليس تجديده.
■ أنْ يتفوّقَ طالبٌ مسيحى ويكون أول دفعته، ثم لا يُعيَّـنُ معيدًا لتعسّف رئيس القسم وتطرفه، ثم لا يُقالُ المتطرف؛ فنحن إذن بحاجة إلى «تصويب» الخطاب الدينى، وليس تجديده.
■ أنْ تظلَّ كلمة «العلمانية»، سيئةَ السمعة بفعل فاعل، برغم كونها الضامنَ الأوحد للأديان، وبرغم أنها لا تعنى إلا: «وقوف الدولة على مسافة متساوية من جميع الأديان»، ثم لا يسعى الأزهرُ والإعلامُ والتعليمُ إلى تصحيح مفهومها فى عقول العامة؛ فنحن إذن بحاجة إلى «تصويب» الخطاب الدينى، وليس تجديده.
والحديثُ لم ينته. «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
إهداء من الأستاذة فاطمة ناعوت عن جريدة المصري اليوم