السبت الأخير من ديسمبر ٢٠١٨، كان يومًا استثنائيًّا بكل المقاييس، وختامًا طيبًّا لصالونى الشهرى فى نهاية عام مضى، ومفتتحًا راقيًا لعام جديد. بدايةً بالحشود الكثيفة التى ضاق بها مسرحُ «نادى الشرق الأدنى للأرمن»، مثلما ضاقت حديقةُ النادى الشاسعة التى تحلّق فيها الناسُ حول شاشة العرض الكبيرة التى تنقل أحداث الصالون بالمسرح، ومرورًا بأغانى عيد الميلاد ورأس السنة وبابا نويل بهداياه وحكاياه، إضافةً إلى حناجر طربية موهوبة للشاب فاروق مرتضى، والصغيرة الجميلة ميريتيا، والعود الشرقى الساحر بين أصابع ميشيل جرجس، وليس انتهاء بضيف شرف الصالون: الفنان الوطنى المثقف «عمرو سعد»، الذى صفع الطائفيةَ صفعةً مدوّية فى فيلمين رائعين: «مولانا– كارما» وتبرّع بقيمة جائزة «أفضل ممثل» لطفلين يتيمين استشهدتْ والدتُهما فى مذبحة «دير الأنبا صموئيل». أما مفاجأة الصالون فكانت حضور حنجرة مصر الاستثنائية، وأبى الروحى، الفنان: «سمير الإسكندرانى»، المتصوّف الطوباوى والوطنى الشريف الذى حصد لقبَ: «ثعلبُ المخابرات المصرية»، وهو شابٌّ فى مقتبل العمر. بعدما نجح، بالتعاون مع المخابرات المصرية، فى تفكيك ٦ شبكات تجسّس إسرائيلية؛ كانت تخطّط لاغتيال الزعيم جمال عبدالناصر. وتسبب بذكائه وإتقانه لغاتٍ خمسًا، فى فضيحة عالمية لإسرائيل انتهت باستقالة مدير المخابرات الإسرائيلية «مائير هرطابى». ولم تتوقفْ مفاجآتُ الصالون عند هذا، بل تُوِّجتْ بمفاجأة حضور أستاذى العزيز، الذى لم يعلّمنى وحسب «مادة الرياضيات» فى المرحلة الثانوية، حتى نبغتُ فيها ودخلتُ كلية الهندسة، بل علّمنى كيف أفكّر وأحلّل، وكيف أحبُّ جميعَ البشر، وكيف أُعطى دون انتظار المقابل. إنه مسيو «موريس إسكندر بشاى»، معلّم الرياضيات فى «فرير باب اللوق»، الذى أَدينُ له بأفضال كثيرة، انتهت بدرس فى العطاء لا أنساه. حين كنت فى الثانوية العامة، سافر أستاذى إلى «غينيا» فى بعثة علمية، فى منتصف العام الدراسى. وشعرتُ بارتباك شديد وخِفتُ أن يهبط مستواى فى الرياضيات فلا أدخلُ كلية الهندسة التى أحلمُ بها. فإذا بى أُفاجأ بعد أسبوع من سفره، بخطاب يصلنى مع ساعى البريد عليه طابعُ «غينيا»، يحملُ مسائلَ ومعادلاتٍ فى التفاضل والتكامل والهندسة الفراغية، بتوقيع: مسيو موريس، جوار عبارة: «حِلّى المعادلات وابعتى لى الإجابة، واستعدى لهندسة عين شمس»! هذا الرجلُ النبيل الآن يمرُّ بظرف مرير؛ حيث ابنته الشابة الجميلة «كارولين»، خريجةُ كلية الطب والتعليم الرفيع، ترقد على فراش مرض خطير autoimmune diseases منذ عشر سنوات. وصل بها المرضُ إلى فشل كلويّ وكبديّ ومعويّ ومثانيّ، وتوقُفٍ شبه كامل عن الحركة، وهى بعدُ زهرةٌ مشرقة فى بداية تفتحها للحياة. سافر أستاذى ومُعلّمى بكريمته إلى أمريكا وألمانيا وأنفق على علاجها، خلال تلك السنوات، كلَّ ما يملك من مال. ولم يعد لديه ما يستكمل به مشوار علاجها الشاقّ. وأرجو أن يُستأنف علاجُها على نفقة الدولة، لقاءَ ما قدّم هذا المعلمُ النبيلُ لمصر من أجيال من الطلاب والطالبات المتفوقين أصبحوا الآن شموعًا مشرقةً فى جميع المجالات فى المجتمع المصرى، أنا واحدةٌ منهن. أعطى الفنانُ «عمرو سعد» درسًا عمليًّا فى الالتزام بالوعد واحترام جمهوره، حين قطعَ تصويرَ فيلمه الجديد فى بيروت، لينزل إلى القاهرة لمدة ٢٤ ساعة لحضور صالونى، ثم العودة فجرًا إلى بيروت. أمّا كلمته لجمهور الصالون فكانت فائقةً فى التلقائية والصدق والتحضّر والوفاء. فاكتشفتُ فى «عمرو سعد» متحدثًا رفيعَ الطراز، إن بدأ الحديثَ لا تودُّ أن يصمت. حتى إن الحشودَ تكاثفت أمامه لتمنعه من مغادرة الصالون، رغم ارتباطه بموعد طائرة. ناقش فكرة (الحُلم). وكيف أن تحقيق الأحلام قرارٌ واجب النفاذ لو أخلص الإنسانُ وأصرّ على تحقيقه. لا شىء اسمه «حظ»، بل يخضع الأمرُ بكامله للإرادة والجد. وتكلّم عن والدته، كما لم يتكلّم أحدٌ عن أحد. الأم العظيمة البسيطة التى كافحت من أجله، وكيف تعلّم منها دروسًا رفيعةً فى الحياة، وهى السيدة البسيطة التى تشبه معظم أمهاتنا المصريات الطيبات. وكرّم الصالون أيضًا اثنين من أبنائنا «ذوى القدرات الخاصة»: نرمين نبيل، ومايكل جون. الأولى نجحت فى الحصول على درجة الدكتوراه من لندن، والثانى حصد الميدالية البرونزية فى السباحة. وتسّلم الصبيان الجميلان شهادتيْ التقدير من يد الفنان عمرو سعد، فتعلّق الصبيّان برقبته فى لحظة عناق وحنوّ فريدة لا أنساها على مدى السنوات. شكرًا لكل من يحبُّ الوطن. «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».