فاطمة ناعوت
فى قانون التحضُّر: «البقاءُ للأضعف»!
بقلم/ فاطمة ناعوت - الكاتبة الصحفية والشاعرة الإعلامية المتميزة
الاسمُ: «دارُ السلام»، فلا كان دارٌ، ولا كان سلام! ليست عاصمةَ تنزانيا، ولا هي تقع على ساحل المحيط الهندى. إنما في قلب مصر، أحدُ أحياء القاهرة، على ضفاف نهر النيل الطيب. اسمُ الحى يعدُ بالكثير من الدفء والسلام. لهذا أطرقَ الحى رأسَه خجلاً من واقعة مُشينة جرتْ في قلبه الأسبوعَ الماضى.
في حوش إحدى المدارس الثانوية، الواقعة في ذلك الحى، وقفتِ الطالباتُ في حلقاتٍ يناقشن أمرًا ما. كُنّ يعترضن على فوات امتحان لهنَّ، بسبب ضعف شبكة الإنترنت في المدرسة. وفجأةً، ودون سابق إنذار أو أدنى توقُّع، اقتربت سيدةٌ بادنةٌ مُكتنزةٌ من إحدى تلك الحلقات، ثم دفعت بجسدها اللاحم في هجومٍ غاشم واخترقت حلقةَ الطالبات. كانت عيناها مثبتتين على شىء ما. أما السيدةُ المُصارعة ذاتُ الجسد الوافر فكانت مديرةَ المدرسة. وأما الشىءُ الذي أهاج السيدة وأشعلَ غضبَها وأثارَ تنمُّرَها، فكان مجردَ جديلة جميلة من الشعر الناعم فاحم السواد، منسدلةً على ظهر صبيّة من الصبايا المُتحلقّات حول مشكلتهن الدراسية التي يناقشنها. مدّتِ السيدةُ الغليظةُ يدَها وعقصتْ جديلةَ الفتاة حول معصمها، ثم جذبتها إلى آخر الدنيا. سقطتِ البنتُ على الأرض فراحتِ المديرةُ القاسيةُ تسحلُ البنتَ من شعرها، وسط ذهولها وذهول زميلاتها، وذهول عدسة الكاميرا التي كانت، عَرَضًا، تلتقطُ وتسجّلُ المشهدَ المُزرى في غفلة من الجميع. طالباتُ المدرسة جميعهن محجباتٌ، إلا تلك الصبيّة كان شعرُها مُرسلاً في شرائطه كشلال ليل جميل. تلك جريمتُها! وشاءَ التاريخُ أن تُخلّد تلك الواقعةَ الشاذّة عدسةُ كاميرا يقظة أرسلها اللهُ حتى لا تمرَّ الجريمةُ مرورَ الغافلين. ويُقال إن المديرة لم تتوقف عن سحلِ الصبيّة، إلا حين نبّهتها إحدى المعلمات أن هناك كاميرا تُسجّل وتُدين. ويُقال إن المديرةَ اعتذرت للطالبة خوفًا من الكاميرا والعقاب المُستحق. ويُقال إن الطالبة المسيحية بنت الأصول سامحت وقبلت الاعتذارَ، ولم تتقدم ببلاغ ضد المديرة العنصرية المعقدة. ولكن هل يقبلُ المجتمعُ اعتذارَها، وقد خالفت أبجديات القانون والقيم التربوية والإنسانية والأخلاقية والدينية؟!
في رواية «الوصمة البشرية» التي كتبها الأمريكى «فيليب روث»، وترجمتُها للعربية قبل سنوات وصدرت في عدّة طبعات في مصر والعراق، دفعَ بروفيسور عظيم، في إحدى جامعات أمريكا، أعوامًا مُرَّة من حياته مقابلَ كلمة عنصرية واحدة قالها «دون قصدٍ» لأحد طلابه! فماذا عساها تدفعُ تلك المديرةُ في مصر، بعدما ارتكبت جريمةً عنصرية متكاملة الأركان مع سبق الإصرار والترصد، تجاه فتاة عزلاء لم ترتكب أي خطأ؟!
في عام ٢٠١٣، أيضًا في مصر للأسف، تفوّقت طالبةٌ في الإسكندرية في رياضة الكاراتية، وحصلت على كأس لمدرستها. وفى لحظة التكريم المستحقّة، منعتِ مديرةُ المدرسة تلك الطالبة النجيبة «هبة محمد» من الوقوف مع زميلاتها لالتقاط الصورة التذكارية لأنها «غير محجبة»! وانهارتِ الطالبةُ، وبكت وتوسّلت للمديرة المتطرفة، دون جدوى! هل تتصورون مدى الشقاء الذي ضرب قلبَ صغيرةٍ تتعرض لمثل ذلك الاغتيال المعنوى وهى بعدُ في عمر الزهور؟
في دول الغرب المتحضّر، نجدُ سُلَّم الأولويات كالتالى: الطفل، ثم المُسنّ، ثم المرأة، ثم الكلب، ثم الرجل. فإن شبَّ حريقٌ أو احتُجزت رهائنُ، يتم الإنقاذ وفقًا للمتوالية السابقة. وكثيرًا ما يتندّرُ الرجالُ بأنهم في ذيل اهتمام الدولة. ولكنهم يدركون أن ذلك التراتب يُعلى من شأنهم، إذْ بُنى وفق منطق الأقوى. فـ«الأطفال» هم الأضعفُ، يليهم «العجائزُ»، ثم «النساء»، ثم «الحيوان» الذي لا يعرف كيف يشكو، ثم يأتى الرجلُ ليتربّع على عرش القوة، وعليه مساعدة جميع من سبقه من ضعفاء. في قانون التحضًّر: «البقاءُ للأضعف»، وفى قانون الهمجية: البقاءُ للأشرس والأكثر جبروتًا وصفاقة.
وأما في قانون «ماعت»، قانون سلفنا الصالح العظيم، الذي سبق العالم تحضرًا وسموًّا ونبلا، فما كان القوى يتجبّر أو يقسو، بل يمنحُ الضعيفَ من قوّته. كان الجدُّ المصرى القديم يقول: «كنتُ عينًا للكفيف. كنتُ ساقًا للكسيح. كنتُ يدًا للمشلول. كنتُ أبًا لليتيم. لم أتسبّب في دموع إنسان. لم أتسبب في شقاء حيوان. لم أعذِّب نباتًا بأن نسيت أن أسقيَه. لم أُسبّب البؤسَ لأحد. لم أقتل ولم أحرّض على القتل. لم أتسبّب في الإرهاب. لم أتكلّم بازدراء لأحد. لم أغضب دون سبب وجيه. لم أسمح لغضبى بأن يتسبب في الإيذاء. لم أنتقم لنفسى». ذاك هو جدُّنا المصرى العظيم، فكم واحدًا منّا يستحقُّ أن يكون حفيدًا لذلك الجدّ العظيم؟!
خسِئت تلك المديرة الفاشلة. وشكرًا للسيد المحامى حسين بدران الذي تقدّم ببلاغ للنائب العام بتهمة العنصرية والتمييز، ضدَّ التي لا تستحق شرفَ مهنتها النبيلة.
«الدينُ لله، والوطنُ لَمن يستحقُّ الوطن».
إهداء من الأستاذة فاطمة ناعوت عن جريدة المصري اليوم