فاطمة ناعوت
كونوا طيبين.. حتى تطيرَ بالوناتكم!
بقلم/ فاطمة ناعوت - الكاتبة الصحفية والشاعرة الإعلامية المتميزة
فى مشهد الختام الأسطورى من أحد أفلام سلسلة «مارى روبنس»، وزَّعتِ البائعةُ العجوزُ بالوناتِها الملوّنة على جميع مَن بالحديقة رجالًا ونساء وأطفالًا. بمجرد أن يمسك كلُّ إنسان بطرف الخيط؛ تجذبه البالونةُ لأعلى وتطير به. حتى امتلأت سماءُ لندن بالبالونات الملونة والبشر يُحلّقون فى خِفّة الفراشات وانطلاق الأطفال ورهافة الشعراء. بعد برهة، دخل الحديقةَ الرجلُ الشرير الذى طرد أسرةً آمنة من دارها. شاهد الناسَ يطيرون، فذهب إلى البائعة واختار بالونة. وتأهّبَ الشريرُ لرحلة الطيران مع بقية أهل المدينة. لكن البالونة لم تَطِر. نظر بغضبٍ إلى البائعة، فقالت له مُشجِّعةً: «اصعدْ وطِرْ، ليس من طريق إلى إلا الأعلى!». وثَبَ الرجلُ وقفزَ فى الهواء؛ وكان يسقط!. حاولَ مرَّةً ومرّات، لكن البالونة لم تحمله إلى الأعلى مصافَّ السُّحُب والغيوم. وظلَّ واقفًا حبيسَ الأرض يتطلَّعُ فى حسرة إلى ضحكات الطائرين وبهجاتهم.
انتهى الفيلمُ الخيالىُّ الجميل تاركًا فى الأرواح القيمةَ الإنسانية والأخلاقية الراسخة التى: تُطمئنُ الأخيارَ، وتُؤرِّقُ الأشرار. الطيبون وفقط حملتهم بالوناتُ الأطفال وصعدت بهم إلى مصافِّ النجوم؛ لأن قلوبَهم نقيةٌ كما الأطفال. خفيفون من الآثام غيرُ مُثقلين بالعداوة والبغضاء والشرور. فكانت أجسادُهم أيضًا خفيفةً حملها الهواءُ، ولم تُعرقل طيرانَا جاذبيةُ الأرض.
الفكرةُ الجميلةُ تلك وصل إليها سلفُنا الصالح العظيم: الجدُّ المصرى، فجعل ميزان «ماعت»، إلهة العدالة، من كَفَّتين. فى إحداهما توضعُ ريشةُ الضمير، وفى الكفّة الأخرى يوضعُ قلبُ الإنسان. فإن طفَتْ كفّةُ القلب، دخل الإنسانُ الفردوس الأبدىَّ، لأن قلبَه خفيفٌ من الآثام والخطايا. وإن هبطتْ كفّةُ القلب عن كفّة ريشة الضمير، خرج الوحشُ الأسطورى «عمعوت»، لكى يلتهمَ ذلك الإنسانَ الشرير؛ لأن قلبَه مُثقلٌ بالذنوب والبغضاء. ثم يلفظه الوحشُ فى غياهب الجحيم الأبدىّ، ولا يُبعثُ مع الصالحين. وعلى نحو مشابه وردت الفكرة فى سورة «القارعة» بالقرآن الكريم: «فأمّا من ثَقُلتْ موازينُه فهو فى عيشة راضية، وأما من خفَّت موازينُه فأُمُّه هاوية». والقياسُ هنا معكوسٌ لأن الموزون هو صالح الأعمال.
وعلّمتنى التجارب أن «طيبة القلب» و«ذكاء الذهن» صنوان قرينان. لاحظتُ دائمًا أن المحبة والحنوّ والرحمة مقرونة بالارتقاء البيولوجى، والمستوى العقلى الرفيع. الشرُّ لونٌ من الانحدار لا يليق بمرتبة الإنسان العليا على السُّلَّم البيولوجى. وضعُ شروط «عنصرية» لمنح الحب يضعُ الشخصَ فى مرتبة «دنيا» من مراتب الكائن الحى، فالشاهدُ أن عالَمَ الحيوان قد تطوّر كثيرًا فى تلك المسألة. كثيرًا ما شاهدنا فيديوهات وصورًا لقطّة تحتضنُ عصفورًا جريحًا وتلعقُ جرحه. أو حمامةً تحتضن هرّةً وليدة ماتت أمها وتهاجم مَن يحاول انتزاعها من حضنها. أو عنزةً تُرضعُ أرنبًا مع صغارها. أو لبؤة تحمى غزالاً يطارده قنّاص. الفكرةُ هنا أن ذلك الحيوان أو ذاك الطائر قد تجاوزَ «فصيلَه» الخاصَّ ومنحَ الحبَّ إلى «فصيل» آخر. وكما تشيرُ العنصريةُ والطائفيةُ والقسوة إلى تدنّى المرتبة البيولوجية؛ تشيرُ كذلك إلى انخفاض المستوى الفكرى لذلك الشخص. فأنتَ حين تحبُّ الناسَ فإن المستفيدَ الأوحدَ هو (أنتَ) وليس أحدٌ سواك. المُحسِنُ إلى الناس يشعرُ بسعادة عضوية. إذْ أثبت العلمُ أن «السعادة» تتحقق حين يفرز الجسمُ أربعة هرمونات هى: إندورفين– دوبامين– سيروتونين– أوكسيتوسين. الهرمون الأخير لا يُفرَز إلا فى لحظات الحُنوّ والاحتضان ومنح الحب للآخرين. وإذن محبّةُ الناس دون غايةٍ هى الغايةُ فى ذاتها.
يقول الجدُّ المصرىُّ القديم فى وصاياه وفى شهادته أمام محكمة «ماعت» من أجل استحقاق الخلود والبعث: «كنتُ عينًا للأعمى، كنتُ ساقًا للكسيح. كنتُ يدًا للمشلول. كنتُ أبًا لليتيم. لم أتسبب فى عذاب حيوان. لم أتسبب فى شقاء نبات بأن نسيت أن أسقيه. ولم أتسبب فى دموع إنسان». تأملوا عبقرية الجملة الأخيرة: «لم أتسبّب فى دموع إنسان!». عبارةٌ هائلة ومخيفة تجمعُ فلسفة الكون بكامله فى خمس كلماتٍ. لو غرسنا تلك الكلمات فى قلوبنا لانتهت محنةُ الإنسان فوق الأرض. العدلُ يبدأ من حيث تلك الكلمات، والرحمة والتحضر والصدق والغفران والحب والسلام والمعرفة والزراعة والفنون والتحضر والصناعة والاقتصاد والتعليم والسياسة، جميعُها نقاطٌ على حبل تلك الكلمات النحيلة فى الجملة السابقة الهائلة، فالذى اخترع «الشمعةَ» فى القرون السحيقة مسح دمعةً من عين طفلة تبكى فى الظلام. والذى اخترع الطائرة طيّب قلب أمٍّ برؤية ابنها المسافر. والذى ابتكر الورقة والمطبعة هدهد طفلًا يحكى له أبوه حكاية قبل النوم. والذى ابتكر البيانو مسحَ دموع المحزونين فى هذا العالم.
رمضانُ الكريمُ اليوم. دعونا مع الصوم والتخفّف من الطعام، أن نتخفَّف من جميع صنوف التباغض والكراهية والعنصرية والطائفية. دعونا نملأ رئتينا بأكسجين الحبّ حتى تحملنا البالوناتُ؛ ونطير. كونوا طيبين حتى تطير بالوناتُكم.
«الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحبُّ الوطن».
إهداء من الأستاذة فاطمة ناعوت عن جريدة المصري اليوم