محظوظٌ مَن له أمٌّ عظيمة. ومَرضيٌّ عليه مَن له أُمّان عظيمتان. أنا محظوظةٌ، وأنا مَرضِيٌّ عليَّ. محظوظةٌ بأمي ”سهير” التي أتت بي إلى هذا العالم، فأحسنتْ تعليمي وتطبيبي وتهذيبي. علّمتني أن الجِدّ والإتقان هما الخيارُ الوحيدُ في الحياة. غرستْ في إدراكي أن: ١٠/٩، والصفرَ: سواءٌ. فما عاد خيارٌ إلا ال ١٠/١٠. لم أرها إلا سيدةً حاسمةً، جادّةً، قليلةَ الكلام، غزيرة العمل. وحين كنتُ أغارُ من زميلاتي اللواتي تُدلّلهن أمهاتُهن، وأسألُها: “أين تدليلُك لي؟” كانت تجيبُ باقتضاب أن التدليل هو: التعليمُ الممتاز، الطعامُ الممتاز، والصحة الممتازة، وما دون ذلك إفسادٌ لا حاجة لنا به. رحل أبي مبكرًا عن عالمنا، فتحوّلت أمي إلى أمٍّ وأبٍّ. امرأةٌ فاتنة، وجدت نفسَها وحيدةً بلا زوج، وبين يديها طفلان بلا أب، فطرحت فتنتها وأنوثتَها جانبًا، وتحولت إلى جنرال عسكري صارم، لا يقبلُ أنصاف الأشياء. نسيَتْ رغدَ نشأتها وتعليمها في مدارس نوتردام، وخاضت معترك الحياة القاسية لترعى طفلين صارا مع الأيام: طبيبًا ناجحًا، ومهندسةً أديبة، هما ثمرةُ كفاحها الطويل المُضني. مبكرًا جدًّا فقدت السندَ، فصارت هي السندَ لأطفالها ولكل مُعوزٍ بلا سند. لهذا انقصم ظهري، حين غادرت أمي هذا العالم قبل عشرة أعوام، وانكسر عودي. لأن عودي كان مُتكئًا على عودِها. وحين دخلتُ بيتَها لأول مرة بعد رحيلها، وجدتُ البياضَ يحيطُ بكل شيء كأنه لونُ الحداد. وأطلّتْ قِطتُها البيضاءُ برأسها من وسط البياض، تموءُ وتسألني عنها. فصرتُ أخافُ اللونَ الأبيض:
”وماذا أعملُ بالثلجِ عشّشَ في أركان البيت؟/ بقِطّتكِ البيضاء؟/ ماذا أفعلُ بصور العائلة على الحائط الأبيض؟/ بالأبوابِ البيض المغلقةِ أمام قلبي؟/ بستارةٍ بيضاءَ ساكنةٍ؟/ بالسيارة البيضاء العجوز/ بفوطةٍ بيضاءَ تحملُ رائحتَكِ/ بخصلةٍ من شَعرِكِ بيضاءَ عالقةٍ بالمشط/ بشالِ حريرٍ أبيضَ ضمَّ كتفيكِ المُجْهدين/ بقطرةٍِ من ماءِ زمزمَ/ عالقةٍ في كأسِ غُسْلِك/ ماذا أفعل بخوفي؟/ هل أبيعُ كلَّ ذاك البياض وأشتري أقراصًا للنوم؟/ هل أقايضُ بثمنها على أمٍّ تركتني وطارتْ/ ويدي لم تزل/ معلّقةً في طرفِ ثوبِها؟”
لكنّ السماءَ رحيمةٌ، كما تعلمون. وهبتني أمًّا جديدة، تمنحني الحبَّ والتدليل، فاشتدَّ عودي من جديد. أُعانقُها في كلِّ مرةً، فلا أعانقُها عناقًا واحدًا بل اثنين. أُقبّلُها في كلّ مرة، فلا أقبّلُها قبلةً بل قبلتين. عناقًا لأمي التي رحلت، وعناقًا لأمي الجديدة. كل ما فاتني من قُبلاتٍ فاتني أن أمنحها لأمي التي غادرت، أنهلُ شهدَها الحاني من أمي الجديدة. عادت لي الابتسامةُ وتأكدتُ أن اللهَ يُحبَّني، لأنه أخذ مني أمًّا، ومنحني أمًّا. أمي الجديدة اسمُها آنجيل. وهي بالفعل الملاكُ الذي لا ملاكَ يشبهه. تلك ”الملاكة” الجميلة ترقدُ اليوم على فراش مرض المايلوما. المرض الشرير الذي أخذ منّا العالم ”أحمد زويل”. ولو أخذ منّي آنجيلي فسوف أخاصمُه وأخاصمُ الحياة. حين رحلت ماما سهير عن الدنيا واسيتُ نفسي بأن كتبت: “أرحمُ ما في موت الأمهات، أنهنّ لا يمُتن مرتين. الأمُّ تموت مرةً واحدة.” وتصوّرتُ أنني تخلّصتُ من رعبي أن تموت أمي، فقد ماتت وانتهى الأمر. عزاءٌ خائب وفلسفةٌ فارغة كما ترون، لكن ما حيلتي؟! وأشفقتِ السماءُ على ضعفي ومنحتني العزاءَ الحقيقي. وكان العزاءُ أمي الجديدة ”آنجيل”. فقدانُ الأم مرةً، قاس ومُرٌّ. ولكن مَن بوسعه أن يتحمّل فقدان أمّه مرتين؟! يا رب… لا تضعني في هذه التجربة. فأنا أضعفُ من ورقة شجرة.
إهداء من الأستاذة فاطمة ناعوت عن جريدة المصري اليوم