هذا الرجلُ العظيم لم يتوقّف يومًا عن محاربة القبح في كل صوره. لهذا أسمّيه "المايسترو". فهو يحمل عصًا رفيعة في يمينه ليضربَ بها وجه القبح، ويضبطُ إيقاعَ الجمال في الكون. فإن غاب الجمالُ برهةً؛ لاحقه وطارده حتى يقبض عليه، ويُعيده إلى عرشه. فإن راوغَ الجمالُ وفرَّ واختفى، دخل المايسترو إلى محرابه ليصنعه وينحته ويعيدُ تشكيله، ثم يقدّمه إلى الناس خالصًا نقيًّا من غير سوء. يقود المايسترو فريقَه بدقّة لا تسمحُ بالخطأ أو النشاز؛ ليقدّموا معًا معزوفاتٍ أخلاقيةً فائقة الجمال بالغة الإتقان. ثم يجعلنا نتورّط معه في المعزوفة، بعدما تشتبكُ أفكارُه مع أفكارنا؛ فنخرج من بين يديه ليس كما دخلنا ننشدُ البهجة والمتعة، بل مشغولين بكيف سنغيّر من أنفسنا ونعلو حتى ننجو بسفينة الوطن من السقوط. مهمومٌ بظاهرة الانفلات الأخلاقي التي تفشّت في المجتمع المصري منذ عقود. يصوّب نحوها عصاه الموسيقية ليُعلَّم القبحَ كيف يغدو جميلا. فإن لم يرعوِ القبحُ، شحذَ المايسترو قوسَه، وصوَّبَ نحو قلب القبح سهامَه مُحمّلةً بكامل غضبه الفنيّ الرفيع. وأبدًا لا تخطئ سهامُه هدفَها. تلك هي رسالةُ ذلك الرجل النبيل منذ قرابة النصف قرن، وحتى اليوم والغد بإذن الله. لهذا وضع ابني المهندس "مازن نبيل" صورتَه مع المايسترو على صفحته قائلا: (هذا هو الرجلُ الذي ربّى جيلنا على الأخلاق والقيم والمبادئ.( وصدق نجلي الجميل. فهذا الرجل منشغلٌ بفكرة الجمال. الجمالُ هو طريدته التي يلاحقها ويحاول القبضَ عليها في جميع أعماله المسرحية والسينمائية والتليفزيونية. عن الفنان الكبير مايسترو المسرح، "محمد صبحي"، أتحدّث. سيقول قائلٌ: "محمد صبحي ليس موسيقارًا، بل فنانٌ مسرحيّ موهوب، عزّ نظيرُه." وسأردُّ عليه لأبيّن كيف يلتبسُ الأمرُ عليّ أحيانًا، فأراه مرّةً موسيقارًا فائقًا، ومرّةً أخرى أراه مسرحيًّا عظيمًا، ومخرجًا مسرحيًّا مميزًا، مثلما أراه صائدَ لؤلؤ محترفًا يغوص في عمق المحيط ليُخرج لنا الدرَّ الكامن في محاره، ثم أراه بعدها جواهرجيًّا يُعدّل فوق عينيه العدسة المكبِّرة، يتناول الدُّرّة الخام، فيصقلُها ويلمّعها حتى تشعُّ بريقها الخبيء، وطوال الوقت أراه مثقفًا عضويًّا وطنيًّا، يعرف أنّ عليه واجبًا لهذا الشعب عليه أن يؤديَه، وبين يديه رسالةٌ عسرة لهذا البلد عليه أن يضطلع بها. في جميع مسرحياته وأعماله الدرامية يناقش المايسترو "محمد صبحي" ظواهر اجتماعية خطيرة إما تهدد العروبة ووحدتها، أو تهدد الوطن ونهوضه، أو تهدد الأسرة المصرية التي حرص على المساهمة في تنشئتها على الفضيلة والجمال خلال مسلسل: “يوميات ونيس" بأجزائه الثمانية. في مسرحيته الأحدث: “عيلة اتعمل لها بلوك" يناقش ظاهرة غياب "الترابط الأسري"، وعدم التمسك بالجذور والجنوح نحو الشتات، سواء على مستوى الأسرة أو الوطن أو القومية. أسرة مصرية من الطبقة البرجوازية المتوسطة، في بدايات القرن الماضي، يجدُ أفرادها متعتهم بين صفحات الكتب القيمة المتراصة في المكتبة الأرابيسك، وفي اسطوانات الجراموفون الذي يخبئ في قدسه حناجرَ مصريةً فاتنة، وعلى نغمات البيانو تعزف عليه سيدةُ الأسرة وبناتُها، كعادة الأسر المصرية في ذلك العصر الذهبي. نتلصص على هذه الأسرة في لحظة مفصلية من تاريخ مصر، يوم وفاة الزعيم "سعد زغلول" في أغسطس ١٩٢٧، ثم نراقب الجيل الثاني والثالث والرابع والخامس لتلك الأسرة، وصولا إلى سلسالها بعد مرور مائتي عام حين نصل إلى عام ٢١٢٧ وقد اختفت جميعُ القيم الجميلة التي تمتعت بها الأسرة في نسختها الأولى قبل قرنين. راحت العادات الطيبة تتلاشى شيئًا فشيئًا مع مرور الزمن ومع تغوّل التكنولوجيا التي بدلا من أن تخدمَ الإنسانَ، كما ينبغي لها، أساء الإنسانُ استخدامها وصار خادمًا لها فمزقّت أوصالَ ترابطه مع أشقائه في الإنسانية، وحوّلت دفء الأسرة إلى صقيع قاس؛ حتى صار الإنسانُ في القرن الثاني والعشرين يعيش في صناديق منعزلة وكأنها القبور، بعدما تحول هو ذاته إلى آلةٍ لا حياة فيها. مسرحية "عيلة اتعمل لها بلوك" التي قدّمها "محمد صبحي""مسرح مدينة سنبل" وظلت ترفعُ لافتة "كامل العدد" في جميع العروض منذ ديسمبر ٢٠٢٢ وحتى شهور خلت، وتُعرض الآن على شاشة التليفزيون، تبدأ أحداثُها مع الاحتلال الإنجليزي، وتنتهي بعد قرنين من الزمان مع احتلال الحياة الافتراضية التي مزّقت نسيجنا الإنساني. كعادته في كل عرض جديد يقدّمه لنا، يحرصُ الفنان الكبير، مايسترو المسرح: "محمد صبحي" على تقديم الكوميديا بعدما تمرُّ على العقل فتضربه في "منطقة الوعي"، وتخزُ القلبَ بشوكة التأمل والوجع. تلك هي الخلطة السحرية التي يتميز بها مسرح صبحي. تضحكُ وعصفورُ القلب يغرد وجعًا. ولا عجب في هذا، فطائر مالك الحزين لا يطلق أجمل تغاريده، إلا نازفًا برصاص الرامي. تحمل جميع أعمال صبحي مذاقها الخاص وتجمع ما لا يجتمع: الضحك الفارْس + الوجع الناجم من تأمل تشوهاتنا على صفحة "مرآة ميدوزا" التي تفضح عيوبنا أمام عيوننا لعلّنا نحاولُ إصلاحها، ونستعيد شيئًا من جمالنا الغابر الذي قتلناه بأيدينا ولصالح عدو توقف عن قتلنا بالرصاص والقنابل، حينما وجد طرائقَ أسهل وأرخص للاغتيال. أن نقتل أنفسَنا بأنفسنا حين نقتل القيم والأخلاق والدفء الأسري والتضام والتراحم الذي أوصانا اللهُ به في جميع رسالاته. شاهدنا العرض المسرحي الفاتن غارقين في الضحك، وقلوبنا تنعي خصالنا الحلوة التي عملنا لها "بلوك"، مع مرور الزمن. يقدّم صبحي في العرض خمس شخصيات مختلفة، لكل شخصية طباعها وتكوينها النفسي والشكلي المختلف، مع تسلسل الأجيال. المايسترو "محمد صبحي"، كما يطيبُ لي أن أطلق عليه، كونه أستاذ وأسطى المسرح المصري والعربي المعاصر، صاحبُ مسرح "رساليّ ورسوليّ". فالكوميديا دون "رسالة" حقيقية؛ تغدو عرضًا هزليًّا وظيفته إضحاكُ الناس وإلهاؤهم عن القضايا التي تضرب خِصر المجتمع. والكوميديان إن لم يكن "رسولاً" يحملُ رسالةً جادّة، يغدو مجرد مهرّج يُخدِّرُ الناس بالنكات والقفشات، لينسوا همومهم ومشاكلهم، بدل أن يواجهوها ويعالجوها. علّمنا المسرحُ القومي العظيم أن المسرح مُعلّمٌ لا يقلّ أثرًا عن المدرسة والجامعة. المسرحُ الحقيقي مدرسةٌ خطيرة نتعلم عليها ما فاتنا أن نتعلمه على مقاعد المدارس. والمسرحُ الكوميدي الرسولي "صعبٌ طويلٌ سُلّمُه"، لا يرتقيه إلا مَن يعلمه. ذاك أن المعادلة الصعبة هي الإضحاك مع إعمال العقل، من أجل تشخيص المشكلات ثم وضع خطة لعلاجها بالعقل والعمل. هذا ما تعلّمناه من مسرح المايسترو "محمد صبحي"، على مدى تاريخه الطويل المحترم، منذ قدّم "هاملت" على مسرح الجامعة، مرورًا بتجربته الثمينة الثرية مع الراحل العظيم "لينين الرملي"، ثم في مرحلة إحيائه تراثنا المسرحي الجميل في تجربة "سكة السلامة"، و"لعبة الست"، وكذلك في العرض الساحر "كارمن" الذي قدّم خلالها "أوبرا كارمن" بتوليفة مصرية غير ما قدّم بيزيه. ومازلتُ أنتظرُ وعده لي بتقديم مسرحية "ملك سيام" التي انشغل عنها طويلا. وفي انتظار مسرحيته التي توشك أن تشرق أنوارها قريبًا "فارس يكشف المستور". والحقّ أن الحديث عن مسرح صبحي يحتاج إلى ألف مقال.