في إحدى المدن القديمة، عاش شاب يدعى “سامي” معروف بحسن أخلاقه وشخصيته الإجتماعية الجذابة. كان سامي بطبيعته كريماً ودائم الاستعداد لمساعدة الآخرين، مما جعله محبوباً بين أصدقائه وجيرانه. إلا أن سامي كان يعاني دائماً من مشكلة واحدة: عدم إتقان فن المسافات في العلاقات، خاصة مع من يحب. ذات يوم، تعرف سامي على فتاة تدعى “ليلى”، وكانت علاقتهما تتطور بسرعة كبيرة. كان سامي مفتوناً بشخصيتها وأراد أن يكون معها طوال الوقت، لم يترك لها مساحة للإستقلال أو الخصوصية، وكان يتصل بها باستمرار ويرغب في قضاء كل لحظة إلى جانبها. ليلى كانت تقدر إهتمامه، لكنها بدأت تشعر بثقل هذه العلاقة المفرطة. مع مرور الوقت، بدأت ليلى تنزعج من كثرة تواجد سامي حولها دون أن يترك لها مجالاً لتفكر أو تتنفس. شعرت أن حدودها الشخصية قد تلاشت، وأنها بدأت تفقد هويتها واستقلاليتها في هذه العلاقة، حاولت أن توضح لسامي حاجتها إلى مساحة شخصية، لكن سامي لم يفهم الأمر تماماً وظن أن إصراره على التقارب يعكس حبه العميق. في إحدى المرات، وبعد نقاش طويل، قررت ليلى أن تبتعد لفترة عن سامي لتعيد ترتيب أفكارها. كانت تعتقد أن هذا القرار سيساعده على فهم أن الحب لا يعني التواجد المستمر، بل يعني إحترام المسافات والحدود بين الشريكين. في تلك الفترة، شعر سامي بفراغ كبير، لكنه أدرك تدريجياً أن ليلى كانت على حق. أثناء فترة الفراق، بدأ سامي في التفكير في علاقتهما وما قد تسبب في التباعد. تعلم سامي أن الحب الحقيقي لا يتعلق بالسيطرة أو الاستحواذ على الآخر، بل بالثقة وترك مساحة للشريك للنمو الشخصي. أدرك أن المسافات في العلاقات ليست نقصاً في الحب، بل هي وسيلة لزيادة الاشتياق وتقوية الروابط. بعد فترة، عاد سامي إلى ليلى بنظرة جديدة للعلاقة. بدأ يحترم حدودها ويترك لها المساحة التي تحتاجها. في المقابل، شعرت ليلى بأن علاقتها بسامي أصبحت أكثر توازناً وعمقاً. تعلم سامي من هذه التجربة أن المسافات ليست عدواً للعلاقات، بل هي عنصر أساسي لحمايتها من التلاشي والضغوط. عبر تجربته، فهم سامي أن إتقان فن المسافات هو المفتاح لعلاقات صحية ومستدامة. سواء مع من نحب أو مع جميع البشر، فإن إحترام الحدود والمساحات الشخصية هو ما يجعل العلاقات تنمو وتزدهر بعيداً عن التوترات والانهيارات. كانت تلك القصة درساً مهماً له ولكل من عرفه، فتعلم أن المسافة الصحيحة بين الأشخاص تجعل للقرب أكثر قيمة ومعنى. إتقان فن المسافات بين البشر وكل ما نحبهم هو مهارة حياتية حيوية تساهم في بناء علاقات متوازنة وصحية، يعتبر البعض أن القرب العاطفي والجسدي هو الأساس لبناء علاقات متينة، لكن الحقيقة أن المسافات، سواء كانت عاطفية أو مادية، تلعب دوراً جوهرياً في تعزيز هذا القرب بدلاً من تقويضه. أولاً :المسافات بين البشر: في العلاقات الإنسانية، فهم الحدود الشخصية واحترام مساحات الآخرين هو فن يتطلب الوعي بالنفس وبالآخرين. المسافات لا تعني البعد الجسدي فحسب، بل تشمل أيضاً المسافة النفسية والذهنية. إن منح الآخرين مساحة للتفكير والاستقلالية يعزز الشعور بالاحترام والثقة المتبادلة. كما أن فهم الوقت المناسب للتقارب أو الابتعاد يعكس النضج العاطفي ويقلل من الخلافات وسوء الفهم. عندما نكون قريبين جداً من شخص ما دون أن نترك له مساحة للتنفس أو الخصوصية، قد يشعر الشخص بالاختناق أو بفقدان استقلاليته. هذا يمكن أن يؤدي إلى تدهور العلاقة، حيث قد تبدأ في النمو مشاعر الانزعاج أو النفور، على النقيض، عندما نترك مساحة للآخرين للتعبير عن أنفسهم دون ضغوط، فإن ذلك يسمح للعلاقات بالنمو بشكل طبيعي وصحي. ثانياً: المسافات بين ما نحب: بالإضافة إلى المسافات بين البشر، هناك مسافات بيننا وبين ما نحب من أشياء أو أهداف. في كثير من الأحيان، نميل إلى الاندفاع نحو الأشياء التي نحبها أو نتعلق بها بشكل مفرط، سواء كانت وظيفة، شغفاً، أو هدفاً نسعى لتحقيقه، لكن الإفراط في التركيز أو التعلق قد يؤدي إلى الإرهاق أو فقدان الرغبة. هنا يأتي دور المسافات، حيث يمنح الابتعاد المؤقت عن الأشياء التي نحبها فرصة لتجديد طاقتنا واستعادة شغفنا. على سبيل المثال، الفنان الذي يقضي ساعات طويلة في العمل دون أخذ قسط من الراحة قد يجد نفسه في النهاية متعباً، وغير قادر على الإبداع. الابتعاد قليلاً يمنحه فرصة للتفكير من جديد، وربما يعود إلى عمله برؤية جديدة وطاقات متجددة. نفس الشيء ينطبق على الأهداف والطموحات؛ التوازن بين التقدم المستمر والراحة هو المفتاح للاستدامة وتحقيق النجاح. ثالثاً: كيف نحقق هذا التوازن؟ إتقان فن المسافات يتطلب وعياً ذاتياً عالياً وتواصلاً جيداً مع النفس والآخرين. من المفيد أن نمارس القدرة على الاستماع إلى إحتياجاتنا وإحتياجات من حولنا. إذا شعرنا أننا نقترب أكثر من اللازم أو نبتعد بشكل غير صحي، يجب أن نتخذ خطوات للتعديل. كما أن القدرة على التحدث بصراحة مع الأشخاص من حولنا عن إحتياجاتنا للمسافة هو جزء مهم من بناء علاقات صحية. كما يمكننا إستخدام المسافات كأداة للنمو، الابتعاد المؤقت عن أمر نحب القيام به يمنحنا الفرصة لرؤية الأشياء من منظور مختلف. وقد نجد أنه خلال فترة الابتعاد، نطور أفكاراً جديدة أو نصل إلى حلول لمشكلات كانت مستعصية في السابق. الآن أنا شخصياً عزيزى القارئ تأكدت وأدركت أن المسافات ليست تهديداً، بل هي ضرورة. هي ما يمنحني الفرصة لأعرف نفسي، لأعيد شحن طاقتي، ولأترك مساحة للآخرين ليشتاقوا إليّ ويقدروا وجودي . المسافات تسمح لنا بالتفكير والتأمل، وتمنح العلاقات فرصة للنمو بشكل صحي ومستدام. قررت أن أبدأ في وضع حدود مع نفسي أولاً، قبل أن أطلب من الآخرين أن يحترموا مساحتي. بدأت في تخصيص وقت لنفسي يومياً، بعيداً عن الاتصالات والرسائل والمطالب المستمرة ،بدأت أمارس هواياتي التي كنت قد أهملتها، وأقضي وقتاً في التفكير والتأمل. كنت في البداية أشعر بالغرابة، كأنني أقاطع نفسي عن الحياة الاجتماعية، لكن مع مرور الوقت، شعرت بالتحسن. أصبحت أكثر هدوءاً وثباتاً، بدأت ألاحظ أنني عندما أعطي نفسي مساحة، أستطيع أن أعطي الآخرين بحب وصدق دون أن أشعر بالإنهاك أو الضغط. فهمت أن المسافات لا تعني الانسحاب أو البرود، بل هي جزء من الحفاظ على نفسي وعلى علاقاتي. ومن هنا عزيزى القارئ، تعلمت درساً عميقاً: أن إتقان فن المسافات يبدأ من الداخل. إذا إستطعت أن أكون صديقاً لنفسى أولاً وأحترم إحتياجاتي، سأكون قادراً على الحفاظ على علاقاتي مع الآخرين بشكل أكثر صحة وراحة. الخلاصة :إتقان فن المسافات ليس بالأمر السهل، ولكنه ضروري لبناء علاقات صحية ومتوازنة مع البشر والأشياء التي نحبها. المسافات تمنحنا القدرة على التنفس، التفكير، والإبداع، وإتخاذ القرارات الصحيحة. إنها ليست علامة على الضعف أو الفشل، بل هي أداة للنمو الشخصي والجماعي، ومن خلالها يمكننا أن نحقق توازناً بين القرب والإبتعاد، مما يعزز حياتنا وعلاقاتنا بشكل أعمق وأغنى. “المسافة التي تتركها بينك وبين الآخرين ليست بعداً، بل مساحة تمنح العلاقات حرية التنفس والنمو” أتمنى من كل شخص أن يجعل علاقاته تتنفس حرية، وتنمو بشكل صحيح بقدر الإمكان.. تحياتى..