أفكار شائكةعاجلمقالات رأيوائل لطف الله
في حضرة الغياب.. ندرك القيمة
بقلم/ وائل لطف الله - رئيس التحرير

في دوامة الحياة اليومية، ومع تكرار الوجوه والأحاديث والمواقف، نقع أحيانًا في فخّ نفسي خفي: فخ الاعتياد، حيث يتحوّل وجود أشخاص مهمين في حياتنا من مصدر للإلهام والدعم إلى أمر مسلم به.
نعتاد وجودهم، فنتوقف عن ملاحظته. نألف عطائهم، فنتقاعس عن شكرهم. هكذا تبدأ شرارة الاستهانة، لا عن قصد، بل بفعل غفلة تعتاد القيمة فتنساها.
الألفة التي تسرق البصيرة.. الاعتياد، ذاك الزائر الصامت، يتسلّل إلى علاقاتنا دون ضجيج، فيحول الدهشة إلى روتين، والعرفان إلى صمت. نتوقف عن شكر من يستحقون الشكر، لا جحودًا، بل لأن قلوبنا تعودت على عطائهم. إنها الألفة القاتلة للتقدير.
حين تفقد العيون دهشتها، عالم النفس الأمريكي ويليام جيمس قال ذات مرة: “أعظم اكتشاف في جيلي هو أن الإنسان يمكنه تغيير حياته إذا غيّر موقفه العقلي”. لكن العكس صحيح أيضًا: فحين نفقد الاندهاش بمن حولنا، وننظر إليهم بعدسة العادة لا التقدير، فإننا نخسر شيئًا من إنسانيتنا.
كم مرة رأينا أمًّا تفني أيامها في خدمة أبنائها، دون أن تجد منهم سوى الصمت أو الأوامر؟ وكم من أب عمل لسنوات، لمجرد أن أسرته اعتادت تضحيته، دون كلمة شكر واحدة؟
ربما نعيش في بيتٍ واحد مع أشخاص رائعين، لكننا لا نرى فيهم سوى “الاعتياد”. نعيش بجانبهم، لا معهم. نسمع صوتهم، لكن لا نُصغي إلى أرواحهم.
أمثلة حيّة: حين لا يُكرَّم العظماء إلا بعد غيابهم:
نرى كثيرًا من الشخصيات البارزة في المجتمع – معلمون، فنانون، كتّاب، أطباء، آباء – لا يُكرَّمون إلا بعد وفاتهم أو بعد تقاعدهم. لماذا؟ لأننا تعوّدنا وجودهم، ونسينا أن الوجود لا يعني الدوام.
• أحمد زويل، العالم المصري الحاصل على نوبل، ظلّ لسنوات غير معروف داخل بلده كما يجب، حتى لمع اسمه عالميًا.
• كثيرون كانوا يضحكون من أسلوب أديب مثل نجيب محفوظ في بداياته، ثم عادوا ليبجّلوه بعد حصوله على نوبل.
• وفي حياتنا اليومية، كم من صديق وقف معنا في شدّتنا، ثم نسيناه حين زالت الغيوم؟ أو أخٍ ضحّى، ثم تجاهلناه لأنه “دائمًا موجود”؟
الاعتياد العاطفي:
تراجع الاستجابة رغم الأهمية، في علم النفس، تُعرف هذه الظاهرة بـ”الاعتياد العاطفي” أو Emotional Habituation، وهي تراجع تدريجي في المشاعر المرتبطة بشيء أو شخص بسبب التكرار. وتُشبه إلى حد كبير فقدان الإحساس برائحة عطر قوي إذا ارتديناه يوميًا.
ينطبق ذلك أيضًا على كلمات الثناء. قد تقول لشخص: “أنت رائع”، في المرة الأولى فيشعر بالفخر. لكن مع التكرار، دون فعل أو اهتمام حقيقي، تصبح الكلمة فارغة، أو حتى مزعجة.
الفرق بين الغريب والقريب:
في كثير من الأحيان، نهتم بثناء الناس الغرباء أكثر مما نهتم بآراء من حولنا. وهذا نراه واضحًا في وسائل التواصل الاجتماعي: شخص يتابعنا منذ سنوات ويُعجب بمنشوراتنا ويكتب لنا، بينما غريب يكتب تعليقًا بسيط فيغمرنا بالفرح.
ننبهر بمن يُعلّق على صورنا وهو لا يعرفنا، ونهمل من يعيش معنا ويعرف تفاصيل أرواحنا. نطلب التقدير من الغرباء، ونستخف بآراء المقرّبين، مع أن نظرتهم لنا أصدق وأكثر عمقًا.
نحب أن يمدحنا من لا يعرف عيوبنا. لكن من يعرفنا جيدًا، حين يصمت أو ينتقد، نعتبره جاحدًا… رغم أنه الأقرب إلى الحقيقة.
الآثار النفسية والاجتماعية:
خسارات غير مرئية، الاستهانة بالشخصيات في حياتنا تخلق فجوات صامتة. الشخص الذي يشعر بعدم التقدير يبدأ بالانسحاب، ثم بالصمت، ثم بالغياب العاطفي أو الجسدي.
العلاقات تتآكل، ليس بسبب خلافات حادة، بل بسبب التآكل البطيء بفعل الإهمال النفسي. وهذا أخطر.
كيف نحافظ على وهج العلاقات؟
• الامتنان الصريح: لا تبخل بكلمات الشكر. قل “شكرًا” لكل من يستحقها، حتى لو كان ذلك يوميًا.
• التذكير بالقيمة: ذكّر من تحبهم بفضلهم، بأثرهم، حتى لو ظننت أنهم يعلمون.
• كسر النمط: غيّر روتين التفاعل. أرسل رسالة غير متوقعة. قدّم هدية بسيطة بلا مناسبة.
• إعادة الاكتشاف: خصص وقتًا للحديث العميق مع من حولك. ستُفاجأ بكنوزٍ لم ترها من قبل.
لا تجعل الألفة عذرًا للنسيان: الاعتياد قد يكون مريحًا، لكنه لا يجب أن يُضعف الارتباط. دعنا نتذكّر أن كل شخص في حياتنا هو قصة، وكل لحظة معه هي فرصة للتقدير لا للاستهانة.
ربما لا نحتاج مزيدًا من الأشخاص في حياتنا… بل مزيدًا من الوعي بمن نملكهم فعلًا.