كان طفلًا… لا أكثر. بصدرٍ صغير لا يتسع إلا للأمل، بعينين تتقافزان بالدهشة كفراشتين خرجتا لتوِّهما من شرنقة النقاء، بخطى مترددة نحو العالم، يظنّ أن الناس جميعهم يشبهون قلبه الصغير… أبيض، طاهر، لا يضمر سوى المحبة.
لم يكن يعلم أن الوحوش لا تعيش في الغابات فقط، بل تتكاثر في أروقة البشر، تتوارى خلف وجوهٍ تُشبهنا، ولكنها لا تنتمي إلينا. ذاك الطفل، الذي لم يعرف من الدنيا غير لون الحلوى وطعم الحليب، كانت أولى دروسه في الحياة درسًا مفزعًا كصفعة الموت… تعلّم مبكرًا أن الألم لا يسكن الجسد وحده، بل يستقر في الروح، يكسرها في صمتٍ لا يُرى.
اغتُصبت براءته… لا، لم يكن الأمر مجرّد فعلٍ دنيءٍ لطمس جسده، بل كان اغتيالًا شاملًا لكل ما يمثّله: أحلامه الصغيرة، رغبته البسيطة في الأمان، ابتسامته التي كانت تضيء أركان بيته المتواضع. كان يتوسل بصوتٍ مرتجف: “أرجوكم… فقط دعوني… لا أريد شيئًا… خذوا مصروفي، خذوا الحلوى… فقط دعوني وشأني.” لكنهم لم يفهموا لغة البراءة، ولم يُصغوا لنداء الروح حين تُستباح. فالمُغتصِب لا يسمع، لا يرى، لا يشعر… هو حفنة من الخراب في هيئة إنسان، يعيش ليغرس في الآخرين قبحه، ليطفئ أنوارهم كي لا يرى سواده.
ما فعله أولئك الأوباش لم يكن لحظةً سوداء في ليل طفلٍ وديع، بل كان انقلابًا في ميزان الطفولة. سرقوا صوته… فما عاد يتكلّم، لا لأن الكلمات هربت منه، بل لأن اللغة ذاتها رفضت أن تكون شاهدة على ما جرى. سرقوا عينيه… فما عادتا تلمعان كما كانت، بل صارتا كمرآتين مهشّمتين تعكسان الذكرى والألم. سرقوا نومه… فبات فراشه قبرًا مفتوحًا للكوابيس، وبطّانيته سجناً لا دفء فيه.
إنهم لم يغتصبوا جسد طفلٍ فحسب… بل اغتصبوا الحلم، وهو بعدُ جنين. لم يتركوا له فرصة ليبني عالمه، ليختار لعبته، ليكتب بخربشاته الأولى: “أنا هنا.” جعلوه يكبر ألف عام في لحظة… طفلٌ بجسدٍ صغير، وقلبِ عجوزٍ مكسور، ينظر إلى الحياة من زاويةٍ لا نراها، لأنه ذاق ما لم نذق… طعـم الخذلان.
كلُّ من مرَّ عليه ولم ينقذه، مغتصِبٌ أيضًا. كلُّ من سمع ولم يُحرّك ساكنًا، كان اليد الأخرى للمغتصب. كلُّ من صمت، كان جزءًا من الجريمة، جريمة قتل الطفولة، وانتهاك البراءة، وسرقة الضوء من عيني ملاك.
أتدرون ماذا يعني أن يُغتَصب طفل؟ يعني أن العالم بأسره فقد أحد ألوانه. أن السماء شُقّت، والماء تعكّر، والورد تفتّت قبل أن يُزهِر. يعني أننا خسرنا ضوءًا كان سيُبدّد الظلام، لكننا سمحنا للعتمة أن تطفئه قبل أن يولد.
في هذا العالم، لا يُغتَصب الجسد وحده… بل تُغتصَب الأرواح، تُغتصَب الحياة، يُغتصَب الأمل، في كلّ مرةٍ نترك فيها طفلًا يصرخ في العدم، ولا نجيبه.
فيا كلّ من يملك بقايا ضمير… لا تتركوا أطفالكم وحدهم. احموا أصواتهم، قبل أن تُخنق. احموا خطواتهم، قبل أن تُكسَر. احموا أحلامهم، قبل أن تُغتصَب. فالمغتَصِب ليس مجرد مجرم… بل كائن منفيّ من الإنسانية، لا يستحق سوى العدم، فالموت أرحم من أن يتنفس هواء الحياة بعد أن ذبح البراءة بيديه.