عاجلوائل لطف الله

بين التقليـد واكتشـاف الـذات.. رحـم الله امـرأً عـرف قـدر نفسـه

بقلم رئيس التحرير/ وائل لطف الله

في‭ ‬زحام‭ ‬الحياة‭ ‬وضجيج‭ ‬الطموحات،‭ ‬يسير‭ ‬كثيرون‭ ‬وهم‭ ‬ينظرون‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬غيرهم،‭ ‬يتبعون‭ ‬خُطى‭ ‬غيرهم،‭ ‬ويقيسون‭ ‬أحلامهم‭ ‬بمقاسات‭ ‬لا‭ ‬تخصهم‭.‬‭ ‬في‭ ‬زمنٍ‭ ‬أصبح‭ ‬التقليد‭ ‬فيه‭ ‬أسهل‭ ‬من‭ ‬التفكير،‭ ‬بات‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬يختارون‭ ‬مسارات‭ ‬حياتهم‭ ‬لا‭ ‬لأنهم‭ ‬وجدوا‭ ‬شغفهم،‭ ‬بل‭ ‬لأنهم‭ ‬وجدوا‭ ‬شخصاً‭ ‬آخر‭ ‬يبدو‭ ‬ناجحاً‭ ‬فيها‭.‬

يقول‭ ‬المثل‭ ‬القديم‭: ‬“رحم‭ ‬الله‭ ‬امرأً‭ ‬عرف‭ ‬قدر‭ ‬نفسه”.‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬مقولة‭ ‬بل‭ ‬بوصلة،‭ ‬تُشير‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬وعي‭ ‬الإنسان‭ ‬بإمكاناته‭ ‬الحقيقية‭ ‬لا‭ ‬المتخيلة،‭ ‬واكتشاف‭ ‬ما‭ ‬يميزه‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬محاولة‭ ‬نسخ‭ ‬ما‭ ‬يملكه‭ ‬الآخرون‭.‬

في‭ ‬إحدى‭ ‬القرى‭ ‬البسيطة‭ ‬بصعيد‭ ‬مصر،‭ ‬نشأ‭ ‬شاب‭ ‬يُدعى‭ ‬محسن‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬ثرية،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬يتمتع‭ ‬بموهبة‭ ‬نادرة‭ ‬في‭ ‬تصليح‭ ‬الأجهزة‭ ‬الكهربائية،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬الجيران‭ ‬كانوا‭ ‬يأتون‭ ‬إليه‭ ‬بأجهزتهم‭ ‬التالفة‭ ‬وهو‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬بعد‭ ‬السابعة‭ ‬عشرة‭.‬

رغم‭ ‬ذلك،‭ ‬قرر‭ ‬محسن‭ ‬أن‭ ‬يلتحق‭ ‬بكلية‭ ‬التجارة،‭ ‬ليس‭ ‬حباً‭ ‬في‭ ‬الحسابات‭ ‬أو‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬ابن‭ ‬عمه‭ ‬التحق‭ ‬بها‭ ‬ووجد‭ ‬وظيفة‭ ‬مرموقة‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬البنوك‭. ‬وبعد‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬العناء،‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬وظيفة‭ ‬لا‭ ‬يحبها،‭ ‬يشعر‭ ‬بالضياع‭ ‬بين‭ ‬جداول‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬له‭ ‬شيئًا،‭ ‬بينما‭ ‬موهبته‭ ‬الحقيقية‭ ‬كانت‭ ‬تذبل‭.‬

بعد‭ ‬سنوات،‭ ‬عـاد‭ ‬محسن‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يُجيده،‭ ‬وافتتح‭ ‬ورشة‭ ‬صغيرة‭ ‬لصيانة‭ ‬الأجهزة‭. ‬في‭ ‬غضون‭ ‬أشهر،‭ ‬تحولت‭ ‬الورشة‭ ‬إلى‭ ‬مركز‭ ‬خدمات‭ ‬معتمد،‭ ‬وعاد‭ ‬محسن‭ ‬أخيراً‭ ‬إلى‭ ‬ذاته…‭ ‬حينها‭ ‬فقط‭ ‬قال‭:‬

“لو‭ ‬كنت‭ ‬عرفت‭ ‬قدري‭ ‬مبكراً،‭ ‬لما‭ ‬ضيّعت‭ ‬وقتي‭ ‬في‭ ‬تقليد‭ ‬غيري”.

مشكلة‭ ‬التقليد‭ ‬ليست‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬يُضيّع‭ ‬الوقت،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬يُطفئ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬داخلك‭ ‬من‭ ‬تميّز‭. ‬حين‭ ‬تُقلد‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يشبهك،‭ ‬فإنك‭ ‬لا‭ ‬تسير‭ ‬على‭ ‬طريقه،‭ ‬بل‭ ‬تنقطع‭ ‬عن‭ ‬طريقك‭ ‬أنت‭.‬

العظماء‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬نُسخاً‭ ‬من‭ ‬أحد‭. ‬توماس‭ ‬إديسون‭ ‬لم‭ ‬يُصبح‭ ‬مخترعاً‭ ‬لأنه‭ ‬قلد‭ ‬عالمًا‭ ‬آخر،‭ ‬بل‭ ‬لأنه‭ ‬استثمر‭ ‬فضوله‭. ‬مايكل‭ ‬أنجلو‭ ‬لم‭ ‬يُصبح‭ ‬نحاتًا‭ ‬لأنه‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مثل‭ ‬غيره،‭ ‬بل‭ ‬لأنه‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬النحت‭.‬

الرسالة‭ ‬هنا‭ ‬ليست‭ ‬ضد‭ ‬الطموح‭ ‬أو‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬الآخرين،‭ ‬بل‭ ‬ضد‭ ‬التقليد‭ ‬الأعمى‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يراعي‭ ‬اختلاف‭ ‬الإمكانيات،‭ ‬والظروف،‭ ‬والقدرات‭.‬

لا‭ ‬بأس‭ ‬أن‭ ‬تُلهمك‭ ‬قصة‭ ‬نجاح،‭ ‬لكن‭ ‬الأجمل‭ ‬أن‭ ‬تخلق‭ ‬لنفسك‭ ‬قصة‭ ‬تشبهك‭. ‬لا‭ ‬تُقلل‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬موهبة‭ ‬صغيرة‭ ‬تملكها،‭ ‬فقد‭ ‬تكون‭ ‬هي‭ ‬البذرة‭ ‬التي‭ ‬تنمو‭ ‬منها‭ ‬شجرتك‭ ‬الخاصة‭.‬

قد‭ ‬يكون‭ ‬تقليد‭ ‬المظهر‭ ‬أو‭ ‬أسلوب‭ ‬الحياة‭ ‬أمراً‭ ‬عابراً،‭ ‬لكن‭ ‬تقليد‭ ‬المواهب‭ ‬والقدرات‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يُحدث‭ ‬أكبر‭ ‬شق‭ ‬في‭ ‬النفس‭. ‬حين‭ ‬يتخلى‭ ‬الإنسان‭ ‬عن‭ ‬ذاته‭ ‬ليجتهد‭ ‬في‭ ‬ارتداء‭ ‬موهبة‭ ‬غيره،‭ ‬يُصبح‭ ‬سجين‭ ‬مقارنة‭ ‬لا‭ ‬تنتهي،‭ ‬ويبدأ‭ ‬صراع‭ ‬نفسي‭ ‬صامت‭ ‬يتآكل‭ ‬من‭ ‬الداخل‭.‬

• الخذلان‭ ‬الذاتي‭: ‬ما‭ ‬أصعب‭ ‬أن‭ ‬تبذل‭ ‬جهداً‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬لا‭ ‬تُبدع‭ ‬فيه،‭ ‬فقط‭ ‬لأنك‭ ‬رأيت‭ ‬غيرك‭ ‬يتألق‭ ‬فيه‭. ‬تشعر‭ ‬بأنك‭ ‬تخون‭ ‬نفسك‭ ‬كلما‭ ‬أصررت‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬لا‭ ‬يشبهك‭.‬

• تشوه‭ ‬في‭ ‬الصورة‭ ‬الذاتية‭: ‬يبدأ‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬التشكيك‭ ‬في‭ ‬قدراته‭ ‬الأصلية،‭ ‬ويعتبرها‭ ‬غير‭ ‬جديرة‭ ‬بالاهتمام،‭ ‬فيُهمّش‭ ‬مواهبه‭ ‬الحقيقية‭ ‬لحساب‭ ‬مواهب‭ ‬لا‭ ‬تتناسب‭ ‬مع‭ ‬تركيبته‭.‬

• تناقض‭ ‬داخلي‭ ‬مزمن‭: ‬يعيش‭ ‬من‭ ‬يُقلد‭ ‬موهبة‭ ‬غيره‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التناقض؛‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يتظاهر‭ ‬به،‭ ‬وما‭ ‬يشعر‭ ‬به‭ ‬حقًا‭. ‬هذا‭ ‬التباعد‭ ‬يخلق‭ ‬فجوة‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬قلق‭ ‬مستمر‭ ‬واضطراب‭ ‬داخلي‭.‬

•‭ ‬فقدان‭ ‬الشغف‭: ‬المواهب‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تُشبهك،‭ ‬لن‭ ‬تمنحك‭ ‬الفرح‭. ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬وصلت‭ ‬لمرحلة‭ ‬متقدمة‭ ‬فيها،‭ ‬ستشعر‭ ‬بالفراغ،‭ ‬لأنك‭ ‬لم‭ ‬تصل‭ ‬عبر‭ ‬طريقك‭ ‬الخاص‭.‬

•‭ ‬إحساس‭ ‬بالتضاؤل‭: ‬كلما‭ ‬رأيت‭ ‬من‭ ‬تُقلده‭ ‬ينجح،‭ ‬كلما‭ ‬شعرت‭ ‬بأنك‭ ‬أقل،‭ ‬رغم‭ ‬أنك‭ ‬ربما‭ ‬تملك‭ ‬كنزًا‭ ‬داخليًا‭ ‬مهملًا،‭ ‬فقط‭ ‬لأنك‭ ‬لم‭ ‬تلتفت‭ ‬إليه‭ ‬بعد‭.‬

إن‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يُجيد‭ ‬الرسم،‭ ‬حين‭ ‬يُجبر‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬التمثيل‭ ‬لأنه‭ ‬“يبدو‭ ‬لامعًا”،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬يُتقن‭ ‬الكتابة‭ ‬لكنه‭ ‬يُجرب‭ ‬الغناء‭ ‬تقليدًا،‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬يُطفئ‭ ‬نوره‭ ‬الداخلي‭ ‬ليمشي‭ ‬تحت‭ ‬نور‭ ‬مزيف‭.‬

والحكمة‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تصدح‭: ‬“رحم‭ ‬الله‭ ‬امرأً‭ ‬عرف‭ ‬قدر‭ ‬نفسه”…

ليس‭ ‬تواضعاً،‭ ‬بل‭ ‬وعياً…‭ ‬فالمعرفة‭ ‬الحقيقية‭ ‬بالذات،‭ ‬هي‭ ‬أول‭ ‬الطريق‭ ‬للسلام‭ ‬النفسي‭ ‬والنجاح‭ ‬الحقيقي‭.‬

في‭ ‬النهاية،‭ ‬من‭ ‬عرف‭ ‬قدر‭ ‬نفسه،‭ ‬لم‭ ‬يُهدر‭ ‬عمره‭ ‬في‭ ‬مطاردة‭ ‬أوهام‭ ‬الآخرين…‭ ‬بل‭ ‬صنع‭ ‬بصمته،‭ ‬على‭ ‬مقاس‭ ‬قلبه‭ ‬وفكره‭ ‬وشغفه‭.‬

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى