في زحام الحياة وضجيج الطموحات، يسير كثيرون وهم ينظرون إلى ما في أيدي غيرهم، يتبعون خُطى غيرهم، ويقيسون أحلامهم بمقاسات لا تخصهم. في زمنٍ أصبح التقليد فيه أسهل من التفكير، بات كثير من الشباب يختارون مسارات حياتهم لا لأنهم وجدوا شغفهم، بل لأنهم وجدوا شخصاً آخر يبدو ناجحاً فيها. يقول المثل القديم: “رحم الله امرأً عرف قدر نفسه”. وهي ليست مجرد مقولة بل بوصلة، تُشير إلى طريق وعي الإنسان بإمكاناته الحقيقية لا المتخيلة، واكتشاف ما يميزه بدلاً من محاولة نسخ ما يملكه الآخرون. في إحدى القرى البسيطة بصعيد مصر، نشأ شاب يُدعى محسن. لم يكن من عائلة ثرية، لكنه كان يتمتع بموهبة نادرة في تصليح الأجهزة الكهربائية، حتى إن الجيران كانوا يأتون إليه بأجهزتهم التالفة وهو لم يتجاوز بعد السابعة عشرة. رغم ذلك، قرر محسن أن يلتحق بكلية التجارة، ليس حباً في الحسابات أو الاقتصاد، بل لأن ابن عمه التحق بها ووجد وظيفة مرموقة في أحد البنوك. وبعد أربع سنوات من العناء، وجد نفسه في وظيفة لا يحبها، يشعر بالضياع بين جداول لا تعني له شيئًا، بينما موهبته الحقيقية كانت تذبل. بعد سنوات، عـاد محسن إلى ما يُجيده، وافتتح ورشة صغيرة لصيانة الأجهزة. في غضون أشهر، تحولت الورشة إلى مركز خدمات معتمد، وعاد محسن أخيراً إلى ذاته… حينها فقط قال: “لو كنت عرفت قدري مبكراً، لما ضيّعت وقتي في تقليد غيري”. مشكلة التقليد ليست فقط في أنه يُضيّع الوقت، بل في أنه يُطفئ ما في داخلك من تميّز. حين تُقلد من لا يشبهك، فإنك لا تسير على طريقه، بل تنقطع عن طريقك أنت. العظماء لم يكونوا نُسخاً من أحد. توماس إديسون لم يُصبح مخترعاً لأنه قلد عالمًا آخر، بل لأنه استثمر فضوله. مايكل أنجلو لم يُصبح نحاتًا لأنه أراد أن يكون مثل غيره، بل لأنه وجد نفسه في فن النحت. الرسالة هنا ليست ضد الطموح أو الاستفادة من تجارب الآخرين، بل ضد التقليد الأعمى الذي لا يراعي اختلاف الإمكانيات، والظروف، والقدرات. لا بأس أن تُلهمك قصة نجاح، لكن الأجمل أن تخلق لنفسك قصة تشبهك. لا تُقلل من قيمة موهبة صغيرة تملكها، فقد تكون هي البذرة التي تنمو منها شجرتك الخاصة. قد يكون تقليد المظهر أو أسلوب الحياة أمراً عابراً، لكن تقليد المواهب والقدرات هو ما يُحدث أكبر شق في النفس. حين يتخلى الإنسان عن ذاته ليجتهد في ارتداء موهبة غيره، يُصبح سجين مقارنة لا تنتهي، ويبدأ صراع نفسي صامت يتآكل من الداخل. • الخذلان الذاتي: ما أصعب أن تبذل جهداً في مجال لا تُبدع فيه، فقط لأنك رأيت غيرك يتألق فيه. تشعر بأنك تخون نفسك كلما أصررت على طريق لا يشبهك. • تشوه في الصورة الذاتية: يبدأ الإنسان في التشكيك في قدراته الأصلية، ويعتبرها غير جديرة بالاهتمام، فيُهمّش مواهبه الحقيقية لحساب مواهب لا تتناسب مع تركيبته. • تناقض داخلي مزمن: يعيش من يُقلد موهبة غيره في حالة من التناقض؛ بين ما يتظاهر به، وما يشعر به حقًا. هذا التباعد يخلق فجوة تؤدي إلى قلق مستمر واضطراب داخلي. • فقدان الشغف: المواهب التي لا تُشبهك، لن تمنحك الفرح. حتى لو وصلت لمرحلة متقدمة فيها، ستشعر بالفراغ، لأنك لم تصل عبر طريقك الخاص. • إحساس بالتضاؤل: كلما رأيت من تُقلده ينجح، كلما شعرت بأنك أقل، رغم أنك ربما تملك كنزًا داخليًا مهملًا، فقط لأنك لم تلتفت إليه بعد. إن الإنسان الذي يُجيد الرسم، حين يُجبر نفسه على التمثيل لأنه “يبدو لامعًا”، أو من يُتقن الكتابة لكنه يُجرب الغناء تقليدًا، هو في الحقيقة يُطفئ نوره الداخلي ليمشي تحت نور مزيف. والحكمة هنا لا تزال تصدح: “رحم الله امرأً عرف قدر نفسه”… ليس تواضعاً، بل وعياً… فالمعرفة الحقيقية بالذات، هي أول الطريق للسلام النفسي والنجاح الحقيقي. في النهاية، من عرف قدر نفسه، لم يُهدر عمره في مطاردة أوهام الآخرين… بل صنع بصمته، على مقاس قلبه وفكره وشغفه.