في التاريخ السياسي الحديث، تبرز الفاشية كواحدة من أخطر الأيديولوجيات التي عرفتها البشرية، إذ لم تكن مجرد نظام حكم، بل كانت حركة شمولية هدفت للسيطرة الكاملة على الفرد والمجتمع، وتحويل الدولة إلى كيان فوق القانون وفوق الإنسان. وقد ارتبطت الفاشية بالقرن العشرين ارتباطًا وثيقًا، خاصة في إيطاليا بزعامة بينيتو موسوليني، وألمانيا النازية بقيادة أدولف هتلر، لكنها ليست حكراً على مرحلة زمنية بعينها، إذ تعود مظاهرها للظهور كلما ضعفت الديمقراطيات أو تراجع الوعي الشعبي.
مــا هــي الفـاشــيـة؟
الفاشية هي أيديولوجيا سياسية قومية متطرفة تقوم على تقديس الدولة والزعيم، ورفض الديمقراطية التعددية، واعتبار المعارضة خيانة. تقوم على فكرة أن الأمة كائن عضوي متفوق يحتاج إلى قيادة مطلقة تفرض النظام بالقوة. وترى أن الحرية الفردية وهم يجب التضحية به لصالح “المصلحة العليا للدولة”.
ركائز الفاشية الأساسية:
1. عبــادة الــزعــيــم:
تُقدَّم شخصية الحاكم باعتباره المنقذ، الملهم، وصاحب الرؤية المطلقة. لا يُسأل ولا يُحاسب، ويُنظر إلى كلمته كما لو كانت قانوناً مقدساً.
2. رفض الديمقراطية:
الفاشيون يعتبرون الديمقراطية سبب ضعف الدولة، ويستبدلونها بالحزب الواحد الذي يمثل “إرادة الأمة”.
3. القومية العدوانية:
لا تعترف الفاشية بالتعددية الثقافية أو العرقية، بل تمحوها لصالح قومية صارمة تمجد الهوية الواحدة وترفض الآخر.
4. العسكرة والهيمنة:
المجتمع الفاشي هو مجتمع محارب، يُمَجّد الجيش والقوة، ويُربَّى الشعب على الطاعة والانضباط العسكري.
5. السيطرة على الاقتصاد والإعلام:
رغم أنها لا تُلغي الملكية الخاصة، إلا أنها تفرض سيطرة الدولة على الحركة الاقتصادية والإنتاجية، وتخضع الإعلام للتوجيه الشمولي والدعاية السياسية.
الفاشية في التطبيق: من القوة إلى الانهيار..
من أبرز سمات الأنظمة الفاشية أنها تبدأ بخطاب جماهيري يعد بالعزة والرفاه والقوة والكرامة للمواطن والوطن، لكنها تنتهي بالحروب والدمار والانهيار الاقتصادي. وقد دفعت أوروبا والعالم بأسره ثمن صعود الفاشية في الحرب العالمية الثانية التي أودت بحياة عشرات الملايين.
هل انتهت الفاشية؟!!
رغم سقوط أنظمتها الكبرى في القرن الماضي، فإن الفكر الفاشي لم يختفِ، لا يزال يظهر بأشكال جديدة تحت مسميات مختلفة مثل:
• القومية المتطرفة • الشعبوية العنيفة • كراهية المهاجرين • الدعوات لإلغاء المؤسسات الديمقراطية لصالح “الحكم القوي”
وهنا تكمن خطورة الفاشية: فهي لا تعود بزيّها القديم، بل تتسلل تحت شعارات اقتصادية أو قومية أو دينية.
الفاشية المجتمعية… حين تتحول الكراهية إلى ممارسة علنية بلا رادع:
اضطهاد المسيحيين مثلاً… نموذج صارخ للفاشية الخفية؛ يُحرَق بيت مسيحي بسبب إشاعة، وتُغلَق كنيسة بذريعة “الخوف من الفتنة”، وتُمنَع فتاة مسلمة من زيارة صديقتها المسيحية بدعوى حماية “الشرف الديني” والاشتباه المسبق في أخيها واتهامه زورًا بأنه يسعى لاستمالتها أو “تغيير عقيدتها”، فتتحول العلاقة الإنسانية البريئة بين الأطفال أو الشباب إلى ساحة صراع عقائدي تُفرض فيها الكراهية والقطيعة بدلاً من التعايش والمودة، وفي المقابل.. ورغم أن هذه الممارسات لا تعبّر عن عموم الشعب، فإن فئة متشددة ما زالت تمارس الوجه الآخر من الفاشية؛ حيث تقوم باستدراج الفتيات القبطيات القاصرات وإجبارهن على تغيير دينهن تحت غطاء “الأسلمة المنهجية”، مستخدمة الضغط الاجتماعي والنفسي والديني لانتزاع هوية الفتاة وتحويلها قسرًا عن مسارها الطبيعي في الحياة.
وهكذا تتضح الصورة: فالعلاقة الطبيعية بين فتاة وصديقتها تُشيطن وتُمنع خوفًا من أن تصبح المسلمة “مسيحية”، بينما في الاتجاه المعاكس تُمارس ضغوط حقيقية ومنظمة لتحويل الفتيات المسيحيات إلى الإسلام، في ازدواجية تكشف عمق الفاشية المجتمعية التي تحتكر الدين وتفرضه بالقوة حينًا وبالترهيب حينًا آخر، وهذا بالتأكيد ليس نهج الأغلبية، بل هو سلوك فئة معينة تم غرس أفكارها وتكوينها عبر تعليم مختل وثقافة مغلقة ومتخلفة غذّت مشاعر الكراهية والهيمنة الدينية، فخرجت أجيال تحمل هذا الفكر دون وعي بحجم ما تسببه من ظلم وتقسيم خطير للنسيج الوطني.
إن مواجهة هذا الواقع لا تكون بالإنكار، بل بتجديد التعليم، ورفع الوعي، وتربية أجيال جديدة على احترام التنوع الديني والثقافى حتى نصنع وطنًا أفضل يتسع للجميع دون تمييز أو إقصاء.
تُقدَّم هذه الممارسات على أنها حرص على الأمن القومي، بينما هي في حقيقتها الوجه الأشد خطورة للفاشية: قمع الإنسان بسبب هويته الدينية وتجريد فئة كاملة من حقوقها الطبيعية في المواطنة والعيش بأمان.
ولا يقتصر الأمر على التحريض اللفظي أو الإقصاء الاجتماعي، بل يتجسد في اعتداءات مروّعة تُمارس جهارًا دون خوف من قانون أو مساءلة. تُهان كرامة امرأة في الشارع ويتم تجريدها من ملابسها، وتُحرق منازل وتُهجّر عائلات قسراً من قراها، ويُمارس جلد معنوي وفعلي بحق الأبرياء من خلال أفعال شاذة ومهينة تعبّر عن انحدار أخلاقي وفكري خطير لدى من يرتكبها أو يبررها.
الأخطر من كل ذلك أن هذه الجرائم تمر دون محاسبة حقيقية؛ فلا يُقدَّم المعتدي إلى القضاء، بل تُستبدل العدالة الرسمية بما يُسمّى “جلسات عرفية” تنتهي بطرد الضحية ومعاقبتها بدلاً من محاسبة الجاني ومعاقبته، وكأن المسيحي مواطن مشكوك في انتمائه، يجب عزله عن قريته أو مدينتة وحياته، لا حماية لحقوقه. إنها صورة صارخة لفاشية اجتماعية تُمارَس تحت حماية الصمت الرسمي وتواطؤ مجتمعي يشرعن الظلم ويعيد إنتاجه.
هذه ليست أحداثاً فردية أو نزاعات عابرة، بل تعبير مباشر عن فكر متجذر يقوم على:
• تجريم الاختلاف الديني.
• توريث الكراهية عبر التعليم والثقافة الشعبية.
• تواطؤ مؤسسات يُفترض بها أن تحمي المواطن لا أن تسمح بإهانته وطرده من منزله ومعاقبته بدلاً من إنصافه واسترداد حقوقه من الجاني.
حين تصبح الوطنية غطاءً للاضطهاد:
الفكر الفاشي المعاصر لا يرفع شعار القومية فقط، بل يدّعي حماية الدين أو الهوية الثقافية. وهنا يكمن الخطر الأكبر:
يتم تصوير المسيحي المصري الذي شارك في بناء الوطن منذ آلاف السنين على أنه “آخر” أو “ضيف”، بينما يُرفع المتعصب على أنه “حارس الإيمان والهوية”. هذه هي بذور الفوضى، ومقدمة الانفجار الاجتماعي.
غياب العدالة… بداية سقوط الدولة:
لا تُقاس هيبة الدولة بعدد جنودها أو حجم اقتصادها، بل بقدرتها على حماية مواطنيها وصون حقوقهم دون أي تفرقة. وحين يفلت المعتدي من العقاب، بينما تُجبر الضحية على جلسات عرفية مهينة تنتهي بطرده من منزله وبلدته وتهجير أسرته قسراً، فهنا تتحول الدولة إلى أداة قهر، وتسود الفاشية على حساب القانون، ويُعلن غياب الدولة المدنية الحقيقية.
كيف نحمي المجتمعات من الفاشية؟
• تطبيق صارم للقانون على الجميع دون استثناء.
• الوعي السياسي: تعزيز الثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان.
• تمكين الإعلام الحر ليكشف الحقائق ولا يبرر التمييز.
• التعليم: غرس قيم التنوع والتسامح وإحترام الآخر في المدارس والجامعات.
• المشاركة الشعبية: كلما ابتعد الشعب عن العمل السياسي، تسلل الاستبداد ليملأ الفراغ.
فى النهاية الفاشية ليست مجرد صفحة من الماضي، بل تحذير من المستقبل إذا ما غاب الوعي وتفككت المؤسسات الديمقراطية. إنها درس تاريخي يذكّرنا بأن الحرية لا تُوهب، بل تُحمى. وأن أخطر ما يواجه الشعوب ليس العدو الخارجي، بل الاستبداد الداخلي حين يرتدي عباءة الوطنية.
وفي ظل ما نشهده اليوم من أحداث مؤسفة، يتبيّن أن بعض المجتمعات لا تزال تعاني من جذور التعصب والجهل التي تُورَّث من جيل إلى جيل، مما يكرّس ثقافة الإقصاء وعدم احترام الآخر.
ويظهر هذا الواقع المؤلم بوضوح في غياب التقدير للتنوع الديني، ولا سيما تجاه المواطنين المسيحيين، حيث تغيب العدالة ويُفتقر إلى الأصوات المنصفة القادرة على الدفاع عن قيم المواطنة وحقوق الإنسان.
إن استمرار هذا النهج لا يهدد فقط السلم المجتمعي، بل يعكس تراجعًا خطيرًا في الوعي الوطني والحضاري.
ولا شك أن استمرار هذا الواقع يولّد توتراً مجتمعياً عميقاً، ويُسهم في تفاقم الظلم وغياب سيادة القانون، نتيجة تجاهل جذور المشكلة وعدم اتخاذ إجراءات حاسمة تجاه من يمارسون هذا الفكر المريض. فالدولة القوية هي التي تواجه التعصب بحزم، وتستأصل أسبابه من المنظومة الفكرية والتربوية والأمنية، بدلاً من استهتار وغياب العدالة.
إن ما تحتاجه مصر اليوم هو موقف واضح لا يقبل المساومة، يعيد للحق هيبته، ويضمن كرامة كل مواطن دون تمييز، حفاظاً على استقرار الوطن وسمعته أمام العالم.
وفي ختام ما سبق، لا بد من الإشارة إلى أن ما تحقق من جهود مؤسسات الدولة والمجتمع المدني يُقدَّر بكل احترام وتقدير، غير أن الواقع المصري ما زال بحاجة إلى عمل أعمق يمتد إلى داخل الفرد نفسه.
فنحن في أمسّ الحاجة إلى مشروع وطني قومى طويل المدى لإعادة بناء الوعي وتربية جيلين أو ثلاثة على قيم المواطنة الحقيقية، واحترام الإنسان بوصفه إنساناً، دون النظر إلى دينه أو جنسه. فنهضة المجتمع لا تبدأ من الشعارات، بل من ترسيخ ثقافة الاحترام المتبادل والعدالة والمساواة في الضمير الجمعي للشعوب.
وأيضاً إلى صناعة فرد قادر على تحمّل المسؤولية، يمارس حريته بوعي ومسؤولية، ويؤمن بتفعيل القانون على الجميع دون تمييز، وبنفس المستوى من العدالة والانصاف.
واعلم أن تحقيق كل ذلك لا يتم بين ليلة وضحاها، بل يحتاج إلى زمن وجهد وصبر، ويبدأ أولاً من داخلنا نحن؛ بأن نكون القدوة الحقيقية لأبنائنا وأحفادنا، ونموذجاً يُحتذى به في السلوك والقيم والانتماء للوطن والإنسانية.
“فالأمم لا تنهض حين يتغير واقعها الخارجي، بل حين ينهض ضميرها الداخلي من سباته.”
“وما الوطن إلا مرآة لأبنائه… فإن ارتقى وعيهم، ارتفع مجده، وإن تخلفوا، سقط معهم.”
لا يُصلِح الله أمة لم تُصلِح ما في أنفسها، ولا ينهض وطن إلا حين ينهض إنسانه، فالنهضة ليست حدثاً… بل إنسان يبدأ من نفسه فيصنع وطناً جديداً.
وإذا استقام الإنسان، استقامت الدولة، واعتدل ميزان العدالة، ونهض الوطن كما تنهض الشمس من قلب الظلام.
فالأوطان لا تُبنى بالحجارة فقط، بل تُبنى أولاً بالإنسان، وكل إصلاح يبدأ من الداخل قبل أن ينعكس على الخارج.