هذا المقال أُهديه إلى “أجمل أبٍ في الدنيا”. وأعلمُ أن العديد ممن يقرأون الآن هذه العبارة يهمسون سرًّا أو يهتفون جهرًا: “بابا هو أجمل أب في الدنيا!” وبهذا فهو مُهدًى لكل هؤلاء وأولئك، وأيضًا للأب الأجمل الذي أعرفه.
والشاهد أن جميع الأدبيات في ثقافات العالم كافّة قد “دلّلت” الأمَّ ووضعتها درّةً على تاج العلاقات الإنسانية. والأديان جميعُها كرّمت “الأم” وأسكنتها المكانة الأعلى بين البشر. وقصائد الشعراء، وروايات السُّرّاد، والأغنيات، والأمثال الفولكلورية، والأفلام الدرامية، وغيرها من همسات البشر في آذان البشر، أوسعت الأمَّ كتابةً وتصويرًا وتخليدًا. وهي دون شك تستحق كل هذا وأكثر. فالأمُّ منذورةٌ من قِبل السماء لأعسر وأشقّ وأنبل مهمة بيولوچية حيوية يؤديها كائنٌ حي. أن يَخلُص من جسدها جسدٌ، ومن نفسِها نفسٌ، مثلما تُشرق برعمةُ زهرة من طمي الأرض الطيبة الخصبة الولود. ثم لا تكتفي بهذا الدور الأسطوري المعجز، بل تُكمل دورها القدسي النبيل في إنبات براعمها حتى تفنى هي، بعدما تستوي الزهورُ فوق أغصانها.
ويُنسَى الأبُ. وقلّما يتذكرُ أنه يُنسى. ربما لأن الأدبيات الكونية والأوامر السماوية من حوله، تجعله يتواضع في معرفه مكانه ومكانته. وربما لأن مِراسه الطويل منذ كان طفلا يحبُّ أمَّه ويرتمي في حضنها إن غاضبه طفلٌ مشاكس، أو نهره أبٌ، أو عنّفه معلم، درّبته أن يعرف أنه سيأتي دائمًا رقم (٢) بعد الأم، حين يصبح أبًا. وربما لأنه صدّق أنه “Money Maker، صانع مال وفقط، بينما الأم هي “الكلّ في الكل” في البيت وفي قلوب الصغار. وربما لأنه كلما تذكّر أنه يُنسى، وقف حائلاً بينه وبين التذكّر حديثٌ شريف يقول: “أمُّك، ثم أمُّك، ثم أمُّك، ثم أبوك.” وربما لأنه بالفعل لا يعبأ بالتكريم، ويكفيه الفرحُ في عيون الصغار. وربما لأنه لا يشعر بالأبوّة لصغاره وحسب، بل لزوجته التي صارت أمًّا لصغاره كذلك. وألف ربما وربما. وبالطبع أتكلّم هنا عن الأب الذي يستحقُّ التكريم، لا عن الآباء الذين يقومون بدور الإنجاب الحيوي كأي كائن حي، ثم ينسون صغارهم فيما ينسون. وأعود للأب الحقيقي الذي يُنسى، فينسى أن يتذكر أنه يُنسى، ويفرح مع الفرحين بعيد الأم الذي يحتفل فيه مع صغاره بتلك الجميلة التي حملها إلى بيته صبيةً صغيرة، فصارت على يديه أُمًّا يلتفُّ حولها صغارُه، ويحتفلون بعيدها بعدما يأخذون منه ثمن الهدايا اللطيفة التي سيفاجئونها بها ليُدخلوا الفرحَ على قلبها.
لكن صبية أمريكية طيبة عاشت في أوائل القرن الماضي، فكّرت في هذا الطيب الذي يُنسى. اسمها “سونورا لويس سمارت دود”. كانت تستمع في أحد الآحاد من عام ١٩٠٩إلى عظة دينية في عيد الأم. وكانت أمّها قد رحلت عنها وهي تلد طفلها السادس، ولم تكمل سونورا عامها السادس عشر. فكرّس الأبُ المزارع البسيط حياته لتربيتها مع أشقّائها الخمسة الذكور. فلم تعرف الصبية سونورا غير حنان أبيها حنانًا، ولم تجرّب غير حضنه حضنًا، ولم تسمع غير وجيب قلبه على أطفاله، وجيبًا، وما شهدت غير سهره على مرضها وصحوها واستذكارها دروسها، سهرًا. فما كان منها إلا أن كتبت عريضة مطولة تكلمت فيها عن مكانة الأب في حياة أطفاله، وأوصت في نهاية عريضتها بتخصيص يوم للاحتفال بالأب، أسوةً بعيد الأم العالمي الخالد، العابر للجغرافيات والأزمان. واقترحت عيد ميلاد والدها ليوافق هذا العيد. قدمت الفتاة العريضة للائتلاف الحكومي لمدينة سبوكين، فأيدت فكرتَها بعضُ الفئات المجتمعية في ولايتها. وفي العام التالي احتفلت مدينة “سبوكين” بولاية واشنطن بأول عيد أب في العالم يوم ١٩يونيو ١٩١٠. ثم جاء عام ١٩٦٦ليصدر الرئيس الأمريكي “ليندون چونسون” مرسومًا رئاسيًّا بأن يكون الأحد الثالث من شهر يونيو هو عيد الأب الرسمي.
لكنه، مع كل ما سبق، ظلّ عيدًا خجولا، يتسلل كل عام إلى الروزنامة على استحياء وبخُطى غير واثقة، كأنما لا يريد أن يشعر به أحدٌ. وبالفعل، قلّما يشعر به أحد. فثمة أبٌ يُفاجأ بأطفاله يتحلّقون حوله ويقدمون له الهدايا. فيبدأ في فضّ الأغلفة وهو غارق في التفكير: “هل اليوم عيد ميلادي وقد نسيتُ وتذكّروا؟” وبعد برهة يسمع من يقول: Happy Father’s Day, Dad. فيتذكر ما قد نسى. وثمة آباءٌ لا يعرفون شيئًا عن هذا العيد الخجول.
أقول للأب الجميل الذي أعرفه: المهندس المعماري المرموق “نبيل عبد اللطيف شحاته”: “لم تكن فقط أبًا رائعًا لأطفالي مازن وعمر، بل كنتَ لي، وستظلُّ: أبًا حنونًا، وشقيقًا رائعًا، وصديقًا طيبًا لا أخجل أن يرى دموعي وضعفي حين تقسو الحياة. كل عيد أب وأنت أجمل أب.
إهداء من الأستاذة فاطمة ناعوت عن مجلة ٧ أيام