فاطمة ناعوت

ماما سهير … ماما آنجيل

بقلم/ فاطمة ناعوت - الكاتبة الصحفية والشاعرة الإعلامية المتميزة

محظوظٌ‭ ‬مَن‭ ‬له‭ ‬أمٌّ‭ ‬عظيمة‭. ‬ومَرضيٌّ‭ ‬عليه‭ ‬مَن‭ ‬له‭ ‬أُمّان‭ ‬عظيمتان‭. ‬أنا‭ ‬محظوظةٌ،‭ ‬وأنا‭ ‬مَرضِيٌّ‭ ‬عليَّ‭. ‬محظوظةٌ‭ ‬بأمي‭ ‬‭”‬سهير‭”‬‭ ‬التي‭ ‬أتت‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬فأحسنتْ‭ ‬تعليمي‭ ‬وتطبيبي‭ ‬وتهذيبي‭. ‬علّمتني‭ ‬أن‭ ‬الجِدّ‭ ‬والإتقان‭ ‬هما‭ ‬الخيارُ‭ ‬الوحيدُ‭ ‬في‭ ‬الحياة‭. ‬غرستْ‭ ‬في‭ ‬إدراكي‭ ‬أن‭: ‬‮١٠‬‭/‬‮٩‬،‭ ‬والصفرَ‭: ‬سواءٌ‭. ‬فما‭ ‬عاد‭ ‬خيارٌ‭ ‬إلا‭ ‬ال‭ ‬‮١٠‬‭/‬‮١٠‬‭. ‬لم‭ ‬أرها‭ ‬إلا‭ ‬سيدةً‭ ‬حاسمةً،‭ ‬جادّةً،‭ ‬قليلةَ‭ ‬الكلام،‭ ‬غزيرة‭ ‬العمل‭. ‬وحين‭ ‬كنتُ‭ ‬أغارُ‭ ‬من‭ ‬زميلاتي‭ ‬اللواتي‭ ‬تُدلّلهن‭ ‬أمهاتُهن،‭ ‬وأسألُها‭: ‬“أين‭ ‬تدليلُك‭ ‬لي؟‭”‬‭ ‬كانت‭ ‬تجيبُ‭ ‬باقتضاب‭ ‬أن‭ ‬التدليل‭ ‬هو‭: ‬التعليمُ‭ ‬الممتاز،‭ ‬الطعامُ‭ ‬الممتاز،‭ ‬والصحة‭ ‬الممتازة،‭ ‬وما‭ ‬دون‭ ‬ذلك‭ ‬إفسادٌ‭ ‬لا‭ ‬حاجة‭ ‬لنا‭ ‬به‭. ‬رحل‭ ‬أبي‭ ‬مبكرًا‭ ‬عن‭ ‬عالمنا،‭ ‬فتحوّلت‭ ‬أمي‭ ‬إلى‭ ‬أمٍّ‭ ‬وأبٍّ‭. ‬امرأةٌ‭ ‬فاتنة،‭ ‬وجدت‭ ‬نفسَها‭ ‬وحيدةً‭ ‬بلا‭ ‬زوج،‭ ‬وبين‭ ‬يديها‭ ‬طفلان‭ ‬بلا‭ ‬أب،‭ ‬فطرحت‭ ‬فتنتها‭ ‬وأنوثتَها‭ ‬جانبًا،‭ ‬وتحولت‭ ‬إلى‭ ‬جنرال‭ ‬عسكري‭ ‬صارم،‭ ‬لا‭ ‬يقبلُ‭ ‬أنصاف‭ ‬الأشياء‭. ‬نسيَتْ‭ ‬رغدَ‭ ‬نشأتها‭ ‬وتعليمها‭ ‬في‭ ‬مدارس‭ ‬نوتردام،‭ ‬وخاضت‭ ‬معترك‭ ‬الحياة‭ ‬القاسية‭ ‬لترعى‭ ‬طفلين‭ ‬صارا‭ ‬مع‭ ‬الأيام‭: ‬طبيبًا‭ ‬ناجحًا،‭ ‬ومهندسةً‭ ‬أديبة،‭ ‬هما‭ ‬ثمرةُ‭ ‬كفاحها‭ ‬الطويل‭ ‬المُضني‭. ‬مبكرًا‭ ‬جدًّا‭ ‬فقدت‭ ‬السندَ،‭ ‬فصارت‭ ‬هي‭ ‬السندَ‭ ‬لأطفالها‭ ‬ولكل‭ ‬مُعوزٍ‭ ‬بلا‭ ‬سند‭. ‬لهذا‭ ‬انقصم‭ ‬ظهري،‭ ‬حين‭ ‬غادرت‭ ‬أمي‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬قبل‭ ‬عشرة‭ ‬أعوام،‭ ‬وانكسر‭ ‬عودي‭. ‬لأن‭ ‬عودي‭ ‬كان‭ ‬مُتكئًا‭ ‬على‭ ‬عودِها‭. ‬وحين‭ ‬دخلتُ‭ ‬بيتَها‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬بعد‭ ‬رحيلها،‭ ‬وجدتُ‭ ‬البياضَ‭ ‬يحيطُ‭ ‬بكل‭ ‬شيء‭ ‬كأنه‭ ‬لونُ‭ ‬الحداد‭. ‬وأطلّتْ‭ ‬قِطتُها‭ ‬البيضاءُ‭ ‬برأسها‭ ‬من‭ ‬وسط‭ ‬البياض،‭ ‬تموءُ‭ ‬وتسألني‭ ‬عنها‭. ‬فصرتُ‭ ‬أخافُ‭ ‬اللونَ‭ ‬الأبيض‭: ‬

‭”‬وماذا‭ ‬أعملُ‭ ‬بالثلجِ‭ ‬عشّشَ‭ ‬في‭ ‬أركان‭ ‬البيت؟‭/ ‬بقِطّتكِ‭ ‬البيضاء؟‭/ ‬ماذا‭ ‬أفعلُ‭ ‬بصور‭ ‬العائلة‭ ‬على‭ ‬الحائط‭ ‬الأبيض؟‭/ ‬بالأبوابِ‭ ‬البيض‭ ‬المغلقةِ‭ ‬أمام‭ ‬قلبي؟‭/ ‬بستارةٍ‭ ‬بيضاءَ‭ ‬ساكنةٍ؟‭/ ‬بالسيارة‭ ‬البيضاء‭ ‬العجوز‭/ ‬بفوطةٍ‭ ‬بيضاءَ‭ ‬تحملُ‭ ‬رائحتَكِ‭/ ‬بخصلةٍ‭ ‬من‭ ‬شَعرِكِ‭ ‬بيضاءَ‭ ‬عالقةٍ‭ ‬بالمشط‭/ ‬بشالِ‭ ‬حريرٍ‭ ‬أبيضَ‭ ‬ضمَّ‭ ‬كتفيكِ‭ ‬المُجْهدين‭/ ‬بقطرةٍِ‭ ‬من‭  ‬ماءِ‭ ‬زمزمَ‭/ ‬عالقةٍ‭ ‬في‭ ‬كأسِ‭ ‬غُسْلِك‭/ ‬ماذا‭ ‬أفعل‭ ‬بخوفي؟‭/ ‬هل‭ ‬أبيعُ‭ ‬كلَّ‭ ‬ذاك‭ ‬البياض‭ ‬وأشتري‭ ‬أقراصًا‭ ‬للنوم؟‭/ ‬هل‭ ‬أقايضُ‭ ‬بثمنها‭ ‬على‭ ‬أمٍّ‭ ‬تركتني‭ ‬وطارتْ‭/ ‬ويدي‭ ‬لم‭ ‬تزل‭/ ‬معلّقةً‭ ‬في‭ ‬طرفِ‭ ‬ثوبِها؟‭”‬

لكنّ‭ ‬السماءَ‭ ‬رحيمةٌ،‭ ‬كما‭ ‬تعلمون‭. ‬وهبتني‭ ‬أمًّا‭ ‬جديدة،‭ ‬تمنحني‭ ‬الحبَّ‭ ‬والتدليل،‭ ‬فاشتدَّ‭ ‬عودي‭ ‬من‭ ‬جديد‭. ‬أُعانقُها‭ ‬في‭ ‬كلِّ‭ ‬مرةً،‭ ‬فلا‭ ‬أعانقُها‭ ‬عناقًا‭ ‬واحدًا‭ ‬بل‭ ‬اثنين‭. ‬أُقبّلُها‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مرة،‭ ‬فلا‭ ‬أقبّلُها‭ ‬قبلةً‭ ‬بل‭ ‬قبلتين‭. ‬عناقًا‭ ‬لأمي‭ ‬التي‭ ‬رحلت،‭ ‬وعناقًا‭ ‬لأمي‭ ‬الجديدة‭.‬‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فاتني‭ ‬من‭ ‬قُبلاتٍ‭ ‬فاتني‭ ‬أن‭ ‬أمنحها‭ ‬لأمي‭ ‬التي‭ ‬غادرت،‭ ‬أنهلُ‭ ‬شهدَها‭ ‬الحاني‭ ‬من‭ ‬أمي‭ ‬الجديدة‭. ‬عادت‭ ‬لي‭ ‬الابتسامةُ‭ ‬وتأكدتُ‭ ‬أن‭ ‬اللهَ‭ ‬يُحبَّني،‭ ‬لأنه‭ ‬أخذ‭ ‬مني‭ ‬أمًّا،‭ ‬ومنحني‭ ‬أمًّا‭. ‬أمي‭ ‬الجديدة‭ ‬اسمُها‭ ‬آنجيل‭. ‬وهي‭ ‬بالفعل‭ ‬الملاكُ‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ملاكَ‭ ‬يشبهه‭. ‬تلك‭ ‬‭”‬الملاكة‭”‬‭ ‬الجميلة‭ ‬ترقدُ‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬فراش‭ ‬مرض‭ ‬المايلوما‭. ‬المرض‭ ‬الشرير‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬منّا‭ ‬العالم‭ ‬‭”‬أحمد‭ ‬زويل‭”‬‭. ‬ولو‭ ‬أخذ‭ ‬منّي‭ ‬آنجيلي‭ ‬فسوف‭ ‬أخاصمُه‭ ‬وأخاصمُ‭ ‬الحياة‭. ‬حين‭ ‬رحلت‭ ‬ماما‭ ‬سهير‭ ‬عن‭ ‬الدنيا‭ ‬واسيتُ‭ ‬نفسي‭ ‬بأن‭ ‬كتبت‭: ‬“أرحمُ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬موت‭ ‬الأمهات،‭ ‬أنهنّ‭ ‬لا‭ ‬يمُتن‭ ‬مرتين‭. ‬الأمُّ‭ ‬تموت‭ ‬مرةً‭ ‬واحدة‭.‬”‭ ‬وتصوّرتُ‭ ‬أنني‭ ‬تخلّصتُ‭ ‬من‭ ‬رعبي‭ ‬أن‭ ‬تموت‭ ‬أمي،‭ ‬فقد‭ ‬ماتت‭ ‬وانتهى‭ ‬الأمر‭. ‬عزاءٌ‭ ‬خائب‭ ‬وفلسفةٌ‭ ‬فارغة‭ ‬كما‭ ‬ترون،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬حيلتي؟‭! ‬وأشفقتِ‭ ‬السماءُ‭ ‬على‭ ‬ضعفي‭ ‬ومنحتني‭ ‬العزاءَ‭ ‬الحقيقي‭. ‬وكان‭ ‬العزاءُ‭ ‬أمي‭ ‬الجديدة‭ ‬‭”‬آنجيل”‭. ‬فقدانُ‭ ‬الأم‭ ‬مرةً،‭ ‬قاس‭ ‬ومُرٌّ‭. ‬ولكن‭ ‬مَن‭ ‬بوسعه‭ ‬أن‭ ‬يتحمّل‭ ‬فقدان‭ ‬أمّه‭ ‬مرتين؟‭! ‬يا‭ ‬رب‭… ‬لا‭ ‬تضعني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭. ‬فأنا‭ ‬أضعفُ‭ ‬من‭ ‬ورقة‭ ‬شجرة‭. ‬

إهداء من الأستاذة فاطمة ناعوت عن جريدة المصري اليوم

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى