فاطمة ناعوت

لا أملكُ إلا ابتسامتي!

بقلم/ فاطمة ناعوت - الكاتبة الصحفية والشاعرة الإعلامية المتميزة

بينما أشاهدُ الفيلم العظيم Gods of Egypt من إخراج “أليكس بروياس”، الأسترالي اليوناني المولود في الأسكندرية، استوقفتني عبارة جارحة الجمال: “لا أملكُ إلا ابتسامتي”، قالتها فتاة فقيرة في لحظة الحساب، خلال رحلتها إلى العالم الآخر. وفق الأدبيات المصرية القديمة، قبل مرحلة النهوض المعرفي، كان المتوفى يشتري الفردوسَ بقرابين الذهب؛ يضعها في كفّة الميزان مقابل ريشة الخلود في الكفّة الأخرى. فإن ثَقُلَت ثروتُه دخل دار الخلود، وإن خَفَّ كنَزُه، هوى إلى سحيق العدم. نهايةُ الفيلم، تُصوِّر مرحلة النضوج المصري التي استبدلت بريشة الثروة، ريشةَ الضمير (ريشة ماعت)، وصار المتوفى يُقدِّم أعمالَ الخير والصلاح التي قام بها في حياته، بدلا من المجوهرات التي يملكها. “زايا” فتاةٌ فقيرة لا تملك ذهبًا ولا فضّة. فلما سألها القُضاةُ: (ماذا ستقدمين من قرابين حتى تنالي الخلود؟) قالت: (لا أملكُ إلا ابتسامتي!).
مرَّ في رأسي شريطٌ بانوراميّ بالابتسامات التي أسرتني. وقررتُ أن أكتب سلسلةً من المقالات عن أصحاب أجمل ابتسامات من أرشيف ذكرياتي.
أبدأُها اليوم بشخص عظيم جميل جليل، رحل عن عالمنا في مثل هذا الشهر منذ أحد عشر عامًا: ١٠ يناير ٢٠٠٩. كان كلما رآني حزينةً على حال مصر، يُطمئنني وهو يبتسمُ في وجهي ابتسامتَه المشرقةَ الشهيرة، التي خلّدتها الصحفُ والتصاوير. تفاؤله بغَدٍ أفضلَ لمصرَ وحالٍ أفضل للمصريين، هو سِرُّه الخاص وسِحره. ذلك التفاؤلُ كان طوقَ النجاة أمام لحظات تشاؤمي. وأعترفُ أنه من علّمني أن الغدَ دائمًا أجملُ.
في أحد صباحات عام ٢٠٠٣، سألتُه: (لمَن نكتبُ يا أستاذ؟) أجابني: (لكلِّ الناس. المصريون من أجمل شعوب الأرض.) أعاودُ: (نعم. ولكن لأية شريحةٍ منهم؟ المثقفون المستنيرون لا يحتاجون كتاباتنا. والظلاميون يرفضونها ويُكفِّروننا. والبسطاءُ ينجرفون وراء الصوت الأعلى؛ وليس أعلى صوتًا من الظلاميين الذين يتوعدون الناسَ بالويل إن فكّروا وحلّلوا واستناروا. المتطرفون من كل لون يقصفون أقلامَنا ويشوّهون سمعتنا ويهدّدوننا، فيخافُ الناسُ ويهربون من حول كلِّ نور يومضُ في الأفق! فلمَن نكتب إذن؟ هل نتوقّفُ عن الكتابة، ونكتفي مثل غيرنا بالفُرْجَة والحسرة على مصرَ بينما يهدمها الهادمون؟) يربتُ على كتفي ويشرقُ وجهه بابتسامةٍ حنون قائلا: (القنوطُ رفاهٌ وترفٌ لا يليقُ بصاحب قلم يا ابنتي! مَن يحمل مشعل التنوير ليس من حقّه أن يترك قلمَه ومشعله ويقف يتفرّج ويتحسّر. وليس له أن ييأس إن لم تأت الثمارُ سريعًا دانيةً قطوفُها. اليأسُ عارٌ لا يليق بالمثقف العضويّ! متنُ المصريين نبيلٌ. وعلينا حماية هذا المتن الطيب من تضليل المُضلّلين.)
أمّا أجملُ ابتساماته التي تشاسعت حتى دخلت حيّز القهقهة فكانت في عام ٢٠٠٦، حينما التقيتُ به في أحد الصباحات في كافيتريا المجلس الأعلى للثقافة، ورحتُ أحكي له ماذا فعلت أمي بالأمس حين قرأتْ في جريدة “الأهرام” خبرًا “مرعبًا” عني. المانشيت يقول: (العالم يُحذِّر من كتاب فاطمة ناعوت الجديد.) فلم تُكمل أمي قراءة الخبر، بعدما صدمها العنوان، واتصلت بي وهي تصرخ في الهاتف: (العالم كله بيحذر من كتابك؟! يا نهار أسود! كتبتي ايه في الكتاب ده؟)
أما متنُ الخبر فيقول: (صدر مؤخرًا للكاتبة فاطمة ناعوت كتابٌ جديد بعنوان “الكتابة بالطباشير” عن دار “شرقيات”. وفي مقدمة الكتاب يقول المفكرُ الكبير “محمود أمين العالم”: “أيـها القارئ العزيز، حـذارِ أن تصدِّقَ عنوانَ هذا الكتـاب! فكتابتُه لم تتحقّـق، كما يزعم عنوانُه، بالطباشيـر! فهي ليسـت بالكتابـة السَّطحية التي يمكن أن تُمسـحَ أو تُنسى بمجرد مغادرتِها. بل هي بالحـق، وفي غير مغالاة، كتابـةٌٌ بالحفـر العميـق في تجاربنا الثقافية القومية والإنسانيّة، التراثيـّة والمعاصـرة. لهذا أرجو أن تتأهَّبَ أيها القارئُ في قراءتك لكتاب ناعوت لعمليتيْ: هدمٍ وبناء- معرفيًّا وموقفًا في وقت واحد، حول العديد من همومنـا الثقافيـة والحياتيّـة السائدة والمُهيمنة.) لقد أغفلت الجريدةُ وضع “الكسرة” تحت حرف “اللام”، فقرأتها أمي: “العالَم”، بدلا من: “العالِم”، وظنّت أن العالَم كلّه ضدي، فانخلع قلبها خوفًا على ابنتها!
المفكّر الكبير والفيلسوف الجميل، أستاذي “محمود أمين العالم”، نَمْ مستريحًا باشًّا مبتسمًا مثلما كنتَ دائمًا؛ فمصرُ الآن أجمل. و“الدينُ لله، والوظنُ لمن يحبُّ الوطن.”

إهداء من الأستاذة فاطمة ناعوت عن جريدة المصري اليوم

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى