بقلم/ لوسى عوض مرجان - صحفية و باحثة فى التاريخ أطفال و فوانيـس ملونة ..إيوحــا الحى اللاتينى يزدان بضريح الحسين و الأزهر الشريف. مـكـاوى و حـداد .. مزجــا التسـحيــر بحـب الوطـن. سيدات فاتنات قمن بمهنة التسحير. "مدفع إفطار أضرب " وأذان المغرب بصوت البلبل الصداح الشيخ محمــــد رفعت ..لمـــــــة أهــــل وأصدقاء حول مائدة الإفطار.. كنافة و قطايف تداعب المفطرين.. ابتهالات النقشبندى تطرب القلوب بـــ " مولاى إنى قد بسطت يدى " .. أطفال يغنون بفوانيسهم الملونة " وحوى يا وحوى " أسواق عامرة بكل أنواع الطيبات من ياميش ومكسرات ..مآذن مزينة و مضاءة.. مقاهى وخيام رمضانية ساهرة حتى الصباح ..و فى الهزيع الأخير من الليل مسحراتى يطوف شوارع و حوارى و أزقة ينادى موقظاً النيام :" يا عباد الله وحدوا الله ".. مباهج وعادات و تقاليد رمضانية لن تجدها إلا فى المحروسة ،لها مذاق خاص فى الأحياء الشعبية و خاصةً فى رحاب الحسين و الرفاعى والسيدة زينب .أجواء جذبت كثيرين من المستشرقين و المؤرخين والرحالة الذين ذابوا عشقاً فى مصر المحروسة بكل ما فيها وما بها من عادات وتقاليد و طقوس ضاربة بجذورها فى التاريخ .و ما أجمل أن نبحرسوياً فيها لنعايش اجواء الزمن الجميل. "إصحى يا نايم " أضحى المسحراتي مجرد ذكرى تأتينا من الزمن الجميل .. ترى ماذا كان يحدث فى الماضي و كيف بدأت مهنة التسحير؟ أسهب أحد المستشرقين الإنجليز وأسمه " ادوارد وليم لين " ،سمى نفسه " منصور أفندي " ــ وهو أحد الذين سحرتهم المحروسة و المصريين ــ في كتابه "عادات المصريين المحدثين و تقاليدهم "عن المسحراتى قائلاً: " يطوف الشوارع و الأزقة و الحارات بطبلته التقليدية تسمى "بازاً " وبيمينه عصا صغيرة أو " سيرا" من الجلد ينقر عليها متطوعا لإيقاظ النيام ليلاً طوال شهر رمضان قائلاً : "اصحي يا نايم وحد الدايم ".. " سحور يا صايم " ، كما ينشد ألحانا خاصة ، و في الأيام الأخيرة من رمضان نسمعه يودع رمضان بألحان مبكية حزناً على فراقه. يرافق المسحراتى فى جولاته صبى يحمل قنديلين إذا أنطفأ ضوئهما علم أن وقت السحور قد فات و يتوقف أمام المنزل قارعاً الباب قائلاً: أسعد لياليك يا فلان و يسمى أسم سيد المنزل و يحيى كل سكانه و يضرب بازة بعد كل تحية ، ومن الطرائف أن المرأة كانت تضع فى العديد من منازل الطبقة المتوسطة بالقاهرة قطعة نقود معدنية صغيرة فى لفافة من الورق و تلقيها من النافذة إلى المسحراتى بعد إضرام النار فيها حتى يرى مكان وقوعها فيتلو المسحراتى حسب رغبتها صورة الفاتحة أو يخبرها قصة قصيرة غير موزونة القافية ليسليها مثل قصة " الضرتين و شجارهما" . أول من ناد بالتسحير عنبسة بن إسحاق والى مصر أول لإيقاظ أهلها وذلك سنة 238 هجرية ، فكان يتحمل مشقة السير من مدينة العسكر إلى الفسطاط منادياً : "عباد الله تسحروا فإن السحور بركة " ، ثم ظهرت وظيفة المسحراتى فى العصر الفاطمى حيث أمر الحاكم بأمر الله بأن ينام الناس مبكرين بعد صلاة التراويح ثم يمر الجنود على البيوت و يدقون الأبواب لإيقاظ النائمين ، و مع الأيام عين أولو الأمر رجلاً للقيام بمهمة المسحراتى ، وكانت الطرافة جزء من شخصية المسحراتى . ولقد استفاض الكثير من المؤرخين فى وصف هذا الجانب من شخصية المسحراتي وخاصة فى الأحياء القديمة التى يعرف الناس فيها بعضهم البعض ، فكان يقرن دعوته للسحور بعبارات طريفة وفق المعطيات الخاصة بأهل كل حى أو بعض الأشخاص .. فعلى سبيل المثال عندما يعرف المسحراتى أن فلاناً نومه ثقيل ، يقف تحت نافذته وقتاً مع إضافة لقب يستفزه للنهوض حتى يرد عليه هذا الشخص و يعلمه أنه استفاق و لا داعي للإلحاح . مهنة المسحراتى فى المحروسة لم تكن مقصورة على الرجال فقد كانت هناك بعض المسحراتية الفاتنات يقمن بهذا العمل حتى تغزل فى إحداهن الشاعر زين الدين بن الوردي ووصفها بأنها شمس تطلع فى وقت السحور فكيف يأكل الناس و الشمس طالعة ".. اكتسبت شخصية المسحراتي سمات مختلفة من زمن لأخر، فعلى يدي الشاعر الشعبى فؤاد حجاج والموسيقار سيد مكاوى فى الخمسينيات اتخذت بعداً فنياً ، و فى عام 1964 أنطلق مسحراتى الإذاعة و الذى أعتاد الساهرون سماعه ، و مع انتشار التليفزيون أبدع سيد مكاوى فى مزج التسحير بالوعظ والإنشاد فى حب الوطن ، ثم أضاف فؤاد حجاج بعداً سياسياً واجتماعياً حينما قال : " كل حتة من بلدى حتة من كبدى حتة من موال " ..ويبقى المسحراتى كائنا حيا يعيش فى الوجدان كتراث عاش قروناً طويلة . الفانوس ..و بنت السلطان و يبقى الفانوس من أجمل مظاهر شهر رمضان , ففي صدر الإسلام استخدم فى الإضاءة ليلاً ، واستعمل كذلك لتنبيه الصائمين فى وقت السحور حيث كان يعلق بالمآذن مضاءاً وهاجاً ، فإذا غاب نوره كان ذلك إيذانا بوجوب الإمساك و الكف عن الطعام.وجدير بالذكر أن المصريين عرفوا فانوس رمضان في الخامس من رمضان عام 362 هجرية و هو ما أكده مصطفى عبد الرحمن في كتابه "رمضانيات" حيث ذكرنصاً انه هو اليوم الذي دخل فيه المعز لدين الله الفاطمي القاهرة و كان قدومه إليها ليلاً فأستقبله أهلها بحفاوة بالغة حاملين المشاعل و الفوانيس مرددين هتافات الترحيب ، و منذ ذلك التاريخ بدأت فكرة الفوانيس ترتبط بشهر رمضان ، و أصبحت الفوانيس لعبة الأطفال يطوفون بها الشوارع والأزقة مطالبين بالهدايا من أنواع الحلوى و هم يرددون أغنية "وحوي يا وحوي ..اياحه" و التي توارثها المصريون جيلاً بعد جيل حتى وقتنا هذا. ظهرت صناعة الفوانيس فى العصر الفاطمي و نشطت في أحياء القاهرة مثل الدرب الأحمر، وبركة الفيل بالسيدة زينب ، وتحت الربع القريبة من حي الأزهر، والغورية التي تخصصت في تصنيع فوانيس رمضان وبيعها بالجملة.ألا أن صناعة الفوانيس اليدوية تواجه حالياً تحدياً كبيراً من الفانوس الصيني الذى غزا الأسواق. لقد داعب فانوس رمضان خيال الشعراء حيث كتب إمام الشعر العامي بيرم التونسي : يا قمر طالع ايوحا بفانوس والع ايوحا أنت حبيب ايوحا املالى جيبي ايوحا سكر احمر ايوحا و زبيب اسمر ايوحا و أنا ادعيلك في يوم عيدك امتى أجيلك. الكنافة و القطايف لا تخلوموائد الصائمين من الكنافة و القطايف ، و يقال أن أول من قدمت له هو معاوية بن سفيان زمن ولايته للشام كطعام للسحور. واختلفت الروايات التاريخية حول ذلك التاريخ ،حيث يذهب بعض أساتذة التاريخ الإسلامي إلى أن تاريخ الكنافة يعود إلى العصر الفاطمي ، ألا أن خليل طاهريدلنا فى كتابه " شهر رمضان منذ فجر الإسلام إلى العصر الحديث" أن المماليك هم أول من ادخلوا صناعتها فى مصر للترفيه عن الصائمين و المحرومين ، كما كانت الكنافة و القطايف موضع مساجلة بين الشعراء فداعب أحدهم الكنافة بقوله " هات القطايف لى هنا.. فالصوم حببها لنا الحسين.. " الحي اللاتيني " حالة فريدة هى ليالي القاهرة في شهر رمضان حيث تجذب عشاق السهر لها ، فالمآذن مضاءة ليلا فى جميع انحاء المحروسة ، وقيل ان عمر بن الخطاب هو أول من فكر فى إنارة المساجد فى ليالى رمضان ليتمكن الناس من إقامة صلاة التراويح و شعائر الدين ، و لهذا نجد مظاهر الفرح بأجلي صورها فى الأحياء الشعبية و خاصةً فى حى الحسين ، و الذى أطلق عليه بعض الظرفاء " الحى اللاتينى " لأنه يشبه زميله الفرنسى لكونه حى عامر . وعلى الرغم من أن الزمان غير كثيراً من صور هذا الحى وبفعل يد المحو و الهدم التى حولت على تعاقب العصور أبنيته و مدارس العلم و خلوات التصوف إلى مقاهي بلدية و حوانيت لصناعات بدائية ، فأنه لا يزل رغم ذلك كله الأثر الباقي من القاهرة الأولى التي بناها المعز لدين الله الفاطمي ..و يزدان هذا الحي الوطنى بضريح حفيد الرسول الحسين بن على رضي الله عنهما ، و يفخر الحى ايضاً بجامع الأزهر ..و هكذا تتجلى اجمل الصور عن شهر رمضان بمظاهرها الروحية و الدنيوية فى مصر المحروسة و احيائها التاريخية . قرب انتهاء الجولة الرمضانية الضاربة و بعد صيام و جهاد يأتي عيد الفطر بفرحته ، و تفنن المصريون فى إعداد موائده الزاخرة بأنواع الكعك و الغربية و البسكويت الى جانب المكسرات و الحلوى ..و هى عادة قديمة موروثة من الفاطميين ثم تناولها المماليك و العثمانيون بالتجديد و التحسن ، و بمرور الأيام أصبح كعك العيد عادة تتوارثها الأجيال ..و هكذا يمضى رمضان بتراويحه و مجالسه و عاداته و تقاليده الجميلة و يبقى المصريون فى انتظاره ليهل علينا فى عام جديد..