فاطمة ناعوت

حكاية السائق مختار

بقلم/ فاطمة ناعوت - الكاتبة الصحفية والشاعرة الإعلامية المتميزة

في‭ ‬شوارع‭ ‬الدنمرك‭ ‬المنظّمة‭ ‬النظيفة،‭ ‬كانت‭ ‬تسير‭ ‬حافلةٌ‭ ‬عامةٌ‭/ ‬باص،‭ ‬ينقلُ‭ ‬المواطنين‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭. ‬يقود‭ ‬الباص‭ ‬رجلٌ‭ ‬أسود‭ ‬تبدو‭ ‬عليه‭ ‬الجدية‭ ‬وحبُّ‭ ‬العمل‭. ‬يتوقف‭ ‬الباص‭ ‬في‭ ‬إشارة،‭ ‬فيصعد‭ ‬رجلٌ‭ ‬يحمل‭ ‬آلةً‭ ‬موسيقية،‭ ‬ساكس،‭ ‬وفجأة‭ ‬بدأ‭ ‬العزف‭ ‬على‭ ‬آلتــه‭ ‬مقطوعــة‭: ‬‭”‬عيــد‭ ‬الميـــلاد‭”‬،‭ ‬وشرعت‭ ‬سيدةٌ‭ ‬في‭ ‬الغناء‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬شاركها‭ ‬الغناءَ‭ ‬كلُّ‭ ‬ركّاب‭ ‬الحافلة،‭ ‬وقد‭ ‬انتظم‭ ‬غناؤهم‭ ‬في‭ ‬مقطوعة‭ ‬غنائية‭ ‬واحدة‭. ‬اندهش‭ ‬السائق‭ ‬وظل‭ ‬يرمق،‭ ‬بترقّب،‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والحين‭ ‬صالونَ‭ ‬الحافلة‭ ‬بمَن‭ ‬فيه،‭ ‬في‭ ‬المرآة‭ ‬المثبتة‭ ‬أمامه‭. ‬عيد‭ ‬ميلاد‭ ‬في‭ ‬الباص؟‭! ‬يا‭ ‬المجانين‭! ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬السائق‭ ‬الأسود،‭ ‬الصومالي‭ ‬المسلم‭ ‬التقطت‭ ‬أُذنُه‭ ‬اسمَه‭: ‬‭”‬مختار‭”‬،‭ ‬بين‭ ‬كلمات‭ ‬الأغنية،‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يزده‭ ‬إلا‭ ‬اندهاشًا‭! ‬على‭ ‬إنه‭ ‬استمر‭ ‬في‭ ‬طريقه،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وصل‭ ‬المحطة‭ ‬التالية‭. ‬فوجد‭ ‬حشدًا‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬يسدون‭ ‬الطريق‭ ‬عليه،‭ ‬ويحملون‭ ‬لافتات‭ ‬وأعلامًا‭ ‬ملونة‭ ‬عليها‭ ‬عبارات‭ ‬تقول‭: ‬عيد‭ ‬ميلاد‭ ‬سعيد‭ ‬يا‭ ‬مختار‭. ‬سيماءُ‭ ‬الدهشة‭ ‬التي‭ ‬ارتسمت‭ ‬على‭ ‬وجهه،‭ ‬وانفتاحُ‭ ‬عينيه‭ ‬على‭ ‬اتساعهما

كمن‭ ‬يرى‭ ‬العجب‭ ‬العُجاب،‭ ‬والابتسامة‭ ‬الوجلى‭ ‬التي‭ ‬صاحبتها‭ ‬‭”‬شهقةٌ‭”‬‭ ‬غير‭ ‬مصدِّقة،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬للكلمات‭ ‬أن‭ ‬تصفها،‭ ‬مهما‭ ‬بلغتْ‭ ‬من‭ ‬بلاغة‭ ‬وبيان‭. ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تشاهدوها‭ ‬بأنفسكم،‭ ‬مثلما‭ ‬شاهدُتها‭ ‬أنا،‭ ‬لكي‭ ‬تصلكم‭ ‬ويصلكم‭ ‬ما‭ ‬اعتمل‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬ذلك‭ ‬العامل‭ ‬البسيط‭ ‬الذي‭ ‬يكدّ‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬لقمة‭ ‬العيــش‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬جادّة‭ ‬لا‭ ‬مكان‭ ‬فيها‭ ‬لخامل‭ ‬أو‭ ‬لعاطل‭. ‬

لكي‭ ‬تشاركوني‭ ‬غبطتي‭ ‬بذلك‭ ‬الحدث‭ ‬الفريد‭ ‬الملهم،‭ ‬بوسعكم‭ ‬أن‭ ‬تشاهدوا‭ ‬الفيلم‭ ‬القصير‭ ‬هنا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الرابط،‭ ‬تحت‭ ‬أيقونه‭ ‬Tube:http://bedrebustur.dk

القصةُ‭ ‬باختصار‭ ‬أن‭ ‬اليوم‭ ‬موافق‭ ‬عيد‭ ‬ميلاد‭ ‬هذا‭ ‬السائق‭. ‬وشأنه‭ ‬شان‭ ‬كل‭ ‬الكادحين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬لم‭ ‬يتذكر‭ ‬الرجلُ‭ ‬عيد‭ ‬ميلاده‭. ‬وإن‭ ‬تذكر‭ ‬فلن‭ ‬يعيره‭ ‬أيَّ‭ ‬اهتمام‭. ‬ارتدى‭ ‬زيّ‭ ‬العمل‭ ‬ونزل‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬إلى‭ ‬عمله‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬كل‭ ‬يوم‭. ‬ربما‭ ‬حتى‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يهنئه‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬أسرته‭: ‬‭”‬كل‭ ‬سنة‭ ‬وأنت‭ ‬طيب‭!‬‭”‬،‭ ‬هذا‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬أسرته‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬البلد‭ ‬الأوروبي‭. ‬لكن‭ ‬مؤسسة‭ ‬النقل‭ ‬العام،‭ ‬التي‭ ‬يعمل‭ ‬بها،‭ ‬لديها‭ ‬ملفٌّ‭ ‬يضم‭ ‬كافة‭ ‬بياناته‭ ‬بوصفه‭ ‬من‭ ‬موظفيها‭. ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬تغافل‭ ‬عن‭ ‬عيد‭ ‬ميلاده‭ ‬ولم‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يأخذ‭ ‬إجازة‭ ‬ليحتفل‭ ‬به،‭ ‬مفضّلا‭ ‬العمل‭ ‬والنظام‭ ‬والمسؤولية؛‭ ‬فقد‭ ‬قررت‭ ‬المؤسسةُ‭ ‬أن‭ ‬تكافئه‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مبتكر‭ ‬وتحتفل‭ ‬بعيد‭ ‬ميلاده‭ ‬على‭ ‬الطريق،‭ ‬لتكون‭ ‬مفاجأةً‭ ‬ارتجّ‭ ‬لها‭ ‬فؤاد‭ ‬الرجل‭ ‬فجلبت‭ ‬الدموعَ‭ ‬إلى‭ ‬عينيه،‭ ‬بينما‭ ‬يعانقه‭ ‬رؤساؤه‭ ‬وزملاؤه‭ ‬فيما‭ ‬المارّةُ‭ ‬والركّاب‭ ‬يلوحون‭ ‬بالرايات‭ ‬الملونة‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬اسمه‭ ‬‭”‬المسلم‭”‬‭: ‬مختار‭.‬

أولئك‭ ‬بشرٌ‭ ‬يفهمون‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مختلف‭ ‬عما‭ ‬نفهمها‭ ‬نحن‭ ‬العرب‭. ‬إنهم‭ ‬يتفانون‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬والجدية،‭ ‬مثلما‭ ‬يتفانون‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬وفي‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بها‭. ‬يقدسون‭ ‬وقتَ‭ ‬العمل‭  ‬فيهبونه‭ ‬كاملا‭ ‬للعمل،‭ ‬ويقدسون‭ ‬وقتَ‭ ‬الراحة،‭ ‬فيهبونه‭ ‬كاملا‭ ‬للراحة،‭ ‬ويقدسون‭ ‬وقتَ‭ ‬العبادة،‭ ‬فيهبونه‭ ‬كاملا‭ ‬للعبادة‭.‬

لا‭ ‬خلطَ‭ ‬أوراق،‭ ‬ولا‭ ‬مجال‭ ‬للشكلانية‭ ‬التي‭ ‬نجيدها‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأحيان‭. ‬فلا‭ ‬نحن‭ ‬نعملُ‭ ‬بجد،‭ ‬ولا‭ ‬نحن‭ ‬نستمتعُ‭ ‬بحياتنا‭ ‬بجد‭. ‬نمسُّ‭ ‬الأمورَ‭ ‬مسًّا‭ ‬طفيفًا،‭ ‬دون‭ ‬عمق،‭ ‬فلا‭ ‬نخلصُ‭ ‬لشيء‭! ‬وهنا‭ ‬أسمع‭ ‬قارئًا‭ ‬يقول‭: ‬أولئك‭ ‬الدنمركيون‭ ‬هم‭ ‬ذاتهم‭ ‬من‭ ‬رسموا‭ ‬تلك‭ ‬الصور‭ ‬المسيئة‭ ‬للرسول‭ ‬الكريم‭. ‬وأقول‭ ‬لهم‭: ‬إنما‭ ‬كانوا‭ ‬يرسموننا‭ ‬نحن‭. ‬فهم،‭ ‬مثلنا،‭ ‬لم‭ ‬يروا‭ ‬الرسول‭ ‬عليه‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام،‭ ‬ليحاولوا‭ ‬رسمه‭ ‬أو‭ ‬النيْل‭ ‬منه‭. ‬لكنهم،‭ ‬دون‭ ‬شك،‭ ‬رأونا‭ ‬نحن،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬بلادهم،‭ ‬ونحن‭ ‬نقدم‭ ‬صورةً‭ ‬مشوّهة‭ ‬للعرب‭ ‬وللمسلمين‭. ‬قليلٌ‭ ‬منّا‭ ‬يجدّون‭ ‬ويعمرون‭ ‬بلادهم‭ ‬الغربية‭ ‬بالعلم‭ ‬والعمل،‭ ‬فينالون‭ ‬احترامهم‭ ‬وتقديرهم،‭ ‬وكثيرون‭ ‬جدًّا‭ ‬يعيثون‭ ‬في‭ ‬بلادهم‭ ‬فسادًا‭ ‬وسلوكًا‭ ‬معيبًا،‭ ‬يسيء‭ ‬لنا‭ ‬جميعا‭ ‬كخير‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬الإساءة‭.‬‭ ‬لستُ‭ ‬أبرئهم‭ ‬من‭ ‬خطـأ‭ ‬وكذلك،‭ ‬بالمقابل،‭ ‬لا‭ ‬أنوي‭ ‬أن‭ ‬أبرئنا‭ ‬من‭ ‬أخطائنا‭. ‬فقد‭ ‬اعتدتُ‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬الجمالَ‭ ‬جمالا،‭ ‬ولو‭ ‬أتاه‭ ‬أجنبيٌّ‭ ‬غريب‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬عدوّ،‭ ‬وأن‭ ‬أرى‭ ‬القبحَ‭ ‬قبحًا،‭ ‬وإن‭ ‬أتاه‭ ‬أخي‭ ‬أو‭ ‬أبي‭ ‬أو‭ ‬ابني‭. ‬ولأنني‭ ‬حريصةٌ‭ ‬على‭ ‬صورتنا‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬نعمل‭ ‬بكل‭ ‬جهدنا‭ ‬على‭ ‬تشويهها‭ ‬في‭ ‬يومنا‭ ‬وليلنا،‭ ‬يحقُّ‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أغار‭. ‬وتلك‭ ‬القصة،‭ ‬حكاية‭ ‬السائق‭ ‬مختار‭ ‬ملأت‭ ‬قلبي‭ ‬بالغيرة،‭ ‬حينما‭ ‬أقارن‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬قمعنا‭ ‬وعدم‭ ‬احترامنا‭ ‬لأولئك‭ ‬البسطاء‭ ‬من‭ ‬الطبقة‭ ‬البروليتارية‭ ‬الكادحة،‭ ‬الذين‭ ‬على‭ ‬سواعدهم‭ ‬فقط،‭ ‬تسيرُ‭ ‬حياتنا،‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬نعبأ‭ ‬حتى‭ ‬بأن‭ ‬نقول‭ ‬لهم‭: ‬شكرا‭. ‬قالت‭ ‬لي‭ ‬د‭. ‬عبلة‭ ‬الكحلاوي،‭ ‬الداعية‭ ‬الإسلامية‭ ‬الأشهر‭: ‬نحن‭ ‬البشرَ‭ ‬جميعا،‭ ‬مسلمين‭ ‬ونصاري‭ ‬ويهودًا‭ ‬سوف‭ ‬ندخل‭ ‬الجنة‭ ‬بأعمالنا‭. ‬فقط‭ ‬بأعمالنا‭.‬

عن المصرى اليوم

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى