حينما يشرعُ مارسُ في لمْلَمةِ أشيائه ويمسكُ عصاه تأهُّبًا للرحيل، نقفُ عند البابِ ننتظرُ، بشغفٍ، شهرًا، ندركُ أنه لا يشبه الشهورَ الأخرى. هو الشهر الثاني بالتقويم الرومانيّ الذي أصبح الرابعَ في التقويم اليوليوسي؛ على يد يوليوس قيصر قبل خمسٍ وأربعين سنةً من الميلاد. الشهرُ الذي اشتّقَ لنفسِه اسمًا من التفتُّح؛ بوصفه نهايةَ الشتاء وبداية الربيع، ومن آفروديت إلهة الحبَّ؛ لأن الحبَّ والربيعَ صُنْوان. أبريلُ الذي بدأ به ت.س.إليوت قصيدتَه "أرضُ الخَراب" قائلا: "أبريلُ أقسى الشهور/ يُنبتُ الليلكَ من الأرضِ المَيْتَة/ ويمزجُ الذاكرةَ بالرغبة/ ويوقظُ الجذورَ الخاملةَ بمطر الربيع.". يدخلُ أبريلُ علينا ونحن صغارٌ، فنبتهج لأن الإجازةَ الصيفية قد لاحتْ حمائمُها في الأفق. ونبتهج لأننا سنتخفَّفُ من المعاطف الثقيلة ومن تحذيراتِ الأمهات من تيارات الهواء والمطر وفتْح النوافذ والخروج لفناء المدرسة وفيتامين سي.... لكنَّ شيئًا مبهجًا آخرَ عرفه جيلي، في أبريل، من أجله كنّا ننتظره من العام للعام. تربيةُ دودِ القزِّ. نُخبئُ صناديقَ الأحذية، ونذهبُ بقروشِنا إلى العمِّ الجالس على رأس الشارع أمام مِشَنّة من خيوطِ الخَيْش، مُغطاةٍ بأوراق التوت، وفوقه تزحفُ عشراتٌ من الديدان البيضاءِ البضّةِ التي تقطعُ بياضَها حلقاتٌ سوداءُ تجعلها أشبهَ بالقطار مع عينيها السوداوين الجميلتين اللتين هما مصباحا القطار. نشتري الدودَ وخزينًا من أوراق التوت، ندّسه في درج الثلاجة السفلي في كيس نايلون. لكنَّ الأكثر متعةً كان تسلُّقُ الشجرةِ الضخمة في المدرسة واختلاس بعض أوراق التوت، ثم دسِّها في الحقيبة بحنكة اللص، وتهريبه إلى البيت في غفلةٍ من حرّاس المدرسة. بالنسبةِ لي، اكتسبتْ عمليةُ تربية دود القزِّ ملمحًا قُدسيًّا عجائبيًّا. ليس وحسب لشعوري أنني شاهدةٌ عمليةَ الخلق والتحوّر المدهشة؛ حين تَبخُُّ الدودةُ من فمِها خيوطَ الحرير حول جسِدها المتكوِّرِ لتغدو شرنقةً بيضاء فاتنة، لا تلبث بعد أسبوع أن تنكسرَ لتخرجَ منها فراشةٌ تطيرُ، فيطير معها عقلي دهشةً وعجبًا، وكذا حزنًا على انتهاء شهادتي على معجزة الحياة، ليس لهذا وحسب اكتسبتِ التجربةُ بُعدًا أسطوريًّا مقدّسًا، بل لأن أمي، التي كانت تنهانا، شقيقي وأنا، بحسمٍ قاسٍ عن كل الهوايات التي تُعطّلنا عن الدراسة، حتى القراءة، في غير المناهج الدراسية، أبدًا لم تتبرَّمْ من تربيتنا دودَ القزِّ. لسبب مجهول حِرتُ كثيرًا في تفسيره، فاستسلمتُ أخيرًا إلى أن هذه الهوايةَ تحمل سِمةً مقدسةً؛ لذا تباركها الماما. حتى أنها كانت تواسيني حينما تقضي دودةٌ من دوداتي وتقول: "خلاص هي أنهتْ حياتها هنا وهتعمل الشرنقة فوق عند ربنا" فأكفُّ عن البكاء. كثيرًا حاولتُ أن أجعلَ أولادي يمارسون تلك التجربةَ الفائقةَ. لكنه جيلٌ، فيما يبدو، لم يعد يجد الدهشةَ في "الحياة"، بل في "افتراض الحياة"، في غرف الدردشة على الشبكة! أما حَيرتي الأبديةُ من مباركة أُمّي لدودة القزِّ فلن تبرحني أبدًا. ذاك أنني، وهي على فراش المرض، سألتها: "اشمعنى هواية دودة القز كنتِ مش رافضاها يا ماما؟"، فابتسمتْ في وَهَنٍ ولم ترُدّ أبدًا. وذهبَ السرُّ معها!