فاطمة ناعوت

أيها “المؤمنون”… أنا مسلمةٌ أحب جرس الكنيسة

بقلم/ فاطمة ناعوت - الكاتبة الصحفية والشاعرة الإعلامية المتميزة

ومَن‭ ‬هم‭ ‬”المؤمنون”؟‭ ‬هم‭ ‬عُصبةٌ‭ ‬من‭ ‬الذكور‭ ‬الأشدّاء‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬قرى‭ ‬مصر‭ ‬المؤمنة‭. ‬سمعوا‭ ‬أن‭ ‬كنيسة‭ ‬بلا‭ ‬جرس،‭ ‬تنتوي‭ ‬أن‭ ‬تُعلّق‭ ‬جرسًا‭! ‬فتجمهروا‭ ‬بعد‭ ‬صلاة‭ ‬الجمعة،‭ ‬وهجموا‭ ‬على‭ ‬الكنيسة،‭ ‬كما‭ ‬تهجمُ‭ ‬الضواري‭ ‬الناهشاتُ‭ ‬على‭ ‬فريسة‭. ‬أوسعوا‭ ‬بيتَ‭ ‬الله‭ ‬الأعزلَ‭ ‬تخريبًا‭ ‬وإتلافًا،‭ ‬ولم‭ ‬يتركوه‭ ‬إلا‭ ‬جدرانًا‭ ‬خربةً‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬تحوي‭ ‬إلا‭ ‬الركامَ‭ ‬وشظايا‭ ‬الزجاج‭ ‬والأخشاب،‭ ‬وكثيرًا‭ ‬من‭ ‬العيون‭ ‬الشاخصة،‭ ‬وكثيرًا‭ ‬من‭ ‬القلوب‭ ‬الكسيرة‭. ‬حدث‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬تابعة‭ ‬لمركز‭ ‬أطفيح‭. ‬وفي‭ ‬ذات‭ ‬القرية‭ ‬ثمّة‭ ‬نمطٌ‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬“المؤمنون”،‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عامين،‭ ‬ظلوّا‭ ‬يدفعون‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الجنيهات‭ ‬لمشعوذين‭ ‬يدعّون‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الجان‭ ‬وتسخيرها‭. ‬أرسل‭ ‬أولئك‭ ‬”المؤمنون”‭ ‬نساءهم‭ ‬للتداوي‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬مُسخّري‭ ‬الجنّ،‭ ‬الذين‭ ‬استغلوا‭ ‬غفلة‭ ‬“المؤمنون”‭ ‬البسطاء‭ ‬فاغتصبوا‭ ‬نساءهم‭!‬

“مؤمنون”‭ ‬أزعجهم’‭ ‬صوتُ‭ ‬جرسٍ،‭ ‬لا‭ ‬يؤذي‭ ‬أحدًا،‭ ‬فخرّبوا‭ ‬كنيسة‭ ‬”الأمير‭ ‬تادرس”‭ ‬لأنهم‭ ‬’مؤمنون’‭! ‬ولأنهم‭ ‬أيضًا‭ ‬”مؤمنون”؛‭ ‬دفعوا‭ ‬الأمــوال‭ ‬لكــذَبَة‭ ‬شــهوانيين‭ ‬يــزعمــون‭ ‬العلاج‭ ‬بالقــرآن،‭ ‬فهُتكت‭ ‬أعــراضُ‭ ‬زوجــات‭ ‬عفيفــات‭ ‬صــدّقــن‭ ‬أزواجــهــــن‭ ‬’المــؤمنــيــن’،‭ ‬فتدنســت‭ ‬أجسادهن‭ ‬بدنس‭ ‬مُدنسِي‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬حاشاه‭ ‬عن‭ ‬الدنس‭. ‬أيُّ‭ ‬إيمان‭ ‬هذا؟‭! ‬وأيُّ‭ ‬إيمان‭ ‬ذاك؟‭!‬

النصبُ‭ ‬على‭ ‬البسطاء‭ ‬وابتزازُ‭ ‬أموالهم‭ ‬وتدنيس‭ ‬أعراضهم‭ ‬باسم‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬هو‭ ‬ازدراءٌ‭ ‬للقرآن‭ ‬وإجرامٌ،‭ ‬وليس‭ ‬إيمانًا‭. ‬تمامًا‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬تخريب‭ ‬كنيسة‭ ‬باسم‭ ‬القرآن‭ ‬هو‭ ‬ازدراءٌ‭ ‬للقران‭ ‬وإجرامٌ،‭ ‬وليس‭ ‬إيمانًا‭. ‬ولكن‭ ‬أولئك‭ ‬الُمجرمين‭ ‬على‭ ‬ألوانهم: ‭)‬المشعوذَ،‭ ‬والمؤمنَ‭ ‬بالشعوذة،‭ ‬ومُخرِّبَ‭ ‬الكنائس‭ (‬جميعَهم،‭ ‬بكل‭ ‬أسفٍ،‭ ‬محسوبون‭ ‬على‭ ‬زمرة‭ ‬’المؤمنين’‭!‬

لكنّ‭ ‬هناك‭ ‬نمطًا‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬المؤمنين،‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬طلبَ‭ ‬اللهُ‭ ‬جلّ‭ ‬وعلا،‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬عليه‭. ‬المؤمنُ‭ ‬السويُّ‭ ‬الذي‭ ‬يؤمن‭ ‬بالله،‭ ‬ويؤمن‭ ‬بحقّ‭ ‬كلّ‭ ‬إنسان‭ ‬أن‭ ‬يؤمن‭ ‬بالله،‭ ‬وفق‭ ‬عقله‭ ‬وقلبه‭ ‬ومعتقده،‭ ‬لا‭ ‬وفق‭ ‬عقل‭ ‬وقلب‭ ‬ومُعتقد‭ ‬سواه‭. ‬ذاك‭ ‬هو‭ ‬المؤمنُ‭ ‬الذي‭ ‬آمن‭ ‬بقوله‭ ‬تعالي‭: ‬“لكم‭ ‬دينكم‭ ‬ولي‭ ‬دين‭. ‬ولو‭ ‬شاء‭ ‬ربُّك‭ ‬لجعلَ‭ ‬الناسَ‭ ‬أمّةً‭ ‬واحدة‭. ‬ولا‭ ‬تعتدوا‭ ‬إنّ‭ ‬اللهَ‭ ‬لا‭ ‬يُحبُّ‭ ‬المُعتدين‭. ‬وتعاونوا‭ ‬على‭ ‬البرِّ‭ ‬والتقوى‭ ‬ولا‭ ‬تعاونوا‭ ‬على‭ ‬الإثمِ‭ ‬والعدوان‭. ‬لا‭ ‬ينهاكُم‭ ‬اللهُ‭ ‬عن‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يقاتلوكم‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬ولم‭ ‬يخرجوكم‭ ‬من‭ ‬دياركم‭ ‬أن‭ ‬تَبرّوهم‭ ‬وتقسطوا‭ ‬إليهم‭. ‬ولا‭ ‬تجادلوا‭ ‬أهل‭ ‬الكتاب‭ ‬إلا‭ ‬بالتي‭ ‬هي‭ ‬أحسن‭.‬”‭ ‬هو‭ ‬المؤمن‭ ‬الذي‭ ‬يعامل‭ ‬الناسَ‭ ‬جميعًا‭ ‬بتحضّر‭ ‬وسموّ‭ ‬ورحمة‭. ‬فاللهُ‭ ‬لن‭ ‬يقبلَ‭ ‬في‭ ‬زُمرة‭ ‬عباده‭ ‬فظًّا‭ ‬أو‭ ‬بذيئًا‭ ‬أو‭ ‬إرهابيًّا‭ ‬يُروّع‭ ‬الآمنين‭ ‬ويُخرّبُ‭ ‬العمران‭.‬

جرسُ‭ ‬الكنيسة‭ ‬لا‭ ‬يزعجُ‭ ‬إلا‭ ‬تافهًا‭ ‬مراهقًا‭ ‬بائسَ‭ ‬الروح‭ ‬رخيصَ‭ ‬الفكر‭. ‬جرسُ‭ ‬الكنيسة‭ ‬لا‭ ‬يُهيّجُ‭ ‬إلا‭ ‬تعسًا‭ ‬فقير‭ ‬الصِّلة‭ ‬بالله؛‭ ‬يحاول‭ ‬تعويض‭ ‬فقر‭ ‬إيمانه‭ ‬بالنيْل‭ ‬من‭ ‬إيمان‭ ‬الآخرين‭ ‬مسلمين‭ ‬كانوا‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭. ‬المؤمنُ‭ ‬الحقَّ‭ ‬مشغولٌ‭ ‬بإيمانه‭ ‬الخاص‭ ‬عن‭ ‬العالمين‭. ‬بينما‭ ‬ناقصُ‭ ‬الإيمان‭ ‬يُكمِلُ‭ ‬نقصَه‭ ‬من‭ ‬إيمان‭ ‬الآخر‭. ‬لكن‭ ‬جرس‭ ‬الكنيسة‭ ‬يُبهج‭ ‬الأسوياء‭ ‬المؤمنين‭ ‬مسلمين‭ ‬كانوا‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مسلمين؛‭ ‬لأن‭ ‬رنيَن‭ ‬الأجراسِ‭ ‬يُنبئُ‭ ‬أن‭ ‬ثمّة‭ ‬حياةً‭ ‬ها‭ ‬هنا،‭ ‬وأن‭ ‬ثمّة‭ ‬نداءً‭ ‬للصلاة‭ ‬وشيكٌ،‭ ‬وأن‭ ‬ثمّة‭ ‬قلوبًا‭ ‬خافقةً‭ ‬تستعدُ‭ ‬للذوبان‭ ‬في‭ ‬الله‭ ‬عشقًا‭.‬

على‭ ‬صفحتي‭ ‬كتب‭ ‬الأستاذ‭ ‬”رفعت‭ ‬عويضة” يقول‭: ‬“أنا‭ ‬مسيحي‭. ‬أثناء‭ ‬خدمتي‭ ‬بالجيش،‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يشيعُ‭ ‬الطمأنينةَ‭ ‬في‭ ‬قلبي،‭ ‬هو‭ ‬صوت‭ ‬آذان‭ ‬الفجر‭.‬”‭ ‬وكتبت‭ ‬”إيناس‭ ‬مايكل”‭ ‬تقول‭: ‬“تعرفي‭ ‬يا‭ ‬أستاذة‭ ‬فاطمة‭ ‬إن‭ ‬القانون‭ ‬الكنسي‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬المسيحية،‭ ‬كما‭ ‬يعلّمنا‭ ‬آباؤنا‭ ‬الكهنة،‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬إذا‭ ‬أيقظنا‭ ‬آذانُ‭ ‬الفجر‭ ‬من‭ ‬النوم،‭ ‬فهذا‭ ‬نداءُ‭ ‬الله‭ ‬لنا‭ ‬لكي‭ ‬نصحوا‭ ‬ونُصلّي‭ ‬صلاة‭ ‬باكر؟”‭ ‬هذان‭ ‬المسيحيان‭ ‬نموذجٌ‭ ‬طيبٌ‭ ‬للمؤمن‭ ‬الحقيقي‭. ‬ذاك‭ ‬المؤمن‭ ‬الذي‭ ‬يؤمن‭ ‬بحق‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬الإيمان‭ ‬وفق‭ ‬معتقده‭. ‬ولا‭ ‬يكتفي‭ ‬بذلك،‭ ‬إنما‭ ‬يفرح‭ ‬لإيمان‭ ‬الآخر‭ ‬ويشجّعه‭ ‬عليه‭. ‬أولئك‭ ‬هم‭ ‬المسيحيون‭ ‬الذين‭ ‬في‭ ‬طفولتهم‭ ‬علّقوا‭ ‬معنا‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬زينةَ‭ ‬رمضان‭ ‬وحملوا‭ ‬معنا‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬الفوانيسَ‭ ‬ذات‭ ‬الشموع‭. ‬صوتُ‭ ‬الآذانُ‭ ‬وصوت‭ ‬جرس‭ ‬الكنيسة‭ ‬يُطرب‭ ‬المؤمنين‭ ‬من‭ ‬كافة‭ ‬العقائد؛‭ ‬لأنهما‭ ‬نداءُ‭ ‬الله‭.‬

أيها‭ ‬”المؤمنون” الذين‭ ‬تخربون‭ ‬الكنائس‭ ‬وترتعبون‭ ‬من‭ ‬أصوات‭ ‬أجراسها،‭ ‬أقول‭ ‬لكم‭ ‬مع‭ ‬ملايين‭ ‬المسلمين‭ ‬مثلي‭: ‬“ نا‭ ‬مسلمةٌ‭ ‬أحبُّ‭ ‬صوت‭ ‬أجراس‭ ‬الكنائس‭ ‬الذي‭ ‬يستدعي‭ ‬طفولتَنا‭ ‬ويعيدُ‭ ‬لنا‭ ‬الفراشات‭ ‬الملونة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تُعيرنا‭ ‬أجنحتها‭ ‬لنطير‭ ‬معها‭ ‬بين‭ ‬زهور‭ ‬الحدائق‭ ‬ننظرُ‭ ‬إلى‭ ‬الله‭.‬

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى