فاطمة ناعوت

افتحوا نوافذَ قلوبكم للحب

بقلم/ فاطمة ناعوت - الكاتبة الصحفية والشاعرة الإعلامية المتميزة

اليوم، ستمتلئ الدنيا بصور كيوبيد، حاملا قوسَه وسهامَه.  كيوبيد هو أكبرُ طفلٍ في الوجود. عمره 3000 عام. هو الطفل الأبدي الذي لا يكبر ولا يشيخ، شأن الحب، عابرٌ للزمن؛ شأنَ الحبِّ، معصوبُ العينين؛ شأنَ الحبِّ، ويصيبُ القلوبَ من دون إنذارٍ ولا مَنطقٍ، شأنَ الحبِّ أيضًا. هو، في الميثولوجيا الرومانية، ابنُ فينوس، إلهةِ الجمال، ومارْس، إلهِ الحرب. تقول الأسطورةُ إن الغيرةَ ضربتْ قلبَ فينوس من الأميرة سايكي Psyche، لأن جمالَها الفائقَ شغلَ الناسَ عن عبادتها. فأمرتْ ابنَها كيوبيد أن يصيبَها بسهمٍ لتحبَّ أكثر رجال الأرض فقرًا ودمامةً. لكن كيوبيد سوف ينبهرَ بجمالها ويقعُ في هواها ويرمي قدمَه بسهم. ولأنه إلهٌ وهي إنسانٌ، فكان ممنوعًا عليها أن تراه. ظلَّ يزورُها كلَّ ليلة، حتى أوعزت شقيقتا سايكي لها أن تنظرَ إليه. ولما فعلت غضب كيوبيد واختفى. واختفت أيضا قلعتُهما الجميلةُ بحدائقها، فضربها الحزنُ وهامتْ على وجهها شاردةً حتى صادفت هيكلَ فينوس. فأمرتها أن تحملَ صندوقًا صغيرًا وتذهبَ إلى العالم السُّفلي لتعبئه من جمال زوجة بلوتو، على ألا تفتحَ الصندوق. لكن فضولَها جعلَها تفتحه فلم تجد جمالا، بل نومًا يشبه الموات. ولمّا وجدها كيوبيد ملقاةً في الصحراء كالموتى، رقَّ قلبُه لها، فانتزعَ منها النومَ ووضعه في الصندوق، ثم تزوجها. فمَنَّ عليها جوبيتر بالألوهية لتصيرَ ربّةَ الروح. ومنها اِشْتُقَّ علمُ النفس Psychology. 

اليومَ، هو بداية فصل الربيع عند قدامى الرومان. حيث مهرجانُ الخصب والنقاء. كانوا يكنسون البيوتَ وينثرون القمحَ والمِلحَ. في أركانها ثم يذهبُ الكهنةُ إلى الكهف المقدس، حيث كان الطفلان الإلهان: روميلوس وريميس؛ مؤسِسا الدولة الرومانية، يعيشان تحت رعاية أنثى ذئب. يذبحون القرابين: عنزةً، رمزًا للخصوبة، وكلبًا، رمزًا للنقاء والوفاء. ثم يُقطّعون جلدَ العنزة شرائحَ صغيرةً يغمسونها في الدم، يجوبُ بها الأولادُ الطرقاتِ ليمسحوا وجوهَ النساء، والحقول؛ فيعمُّ الخصبُ: إنجابًا، ومحاصيلَ. وعند المساء، تُلقي الفتياتُ أسماءهن في جَرّة، ويأتي شبابُ الرومان يلتقطُ كلٌّ ورقةً، فيتزوجُ صاحبتَها. هذه قصة عيد الحب ١٤ فبراير، كما روتها لنا أساطير ما قبل الميلاد. أما الحكايا الأحدث فتقول إن قدّيسًا اسمه فالنتين عاش في عهد الإمبراطور كلاوديس، الذي جَرّم الزواجَ على الشباب؛ لاعتقاده أن الزواجَ يُضعفُ لياقة الجنود القتالية. لكن القديسَ الطيبَ رأى ذلك القانونَ مُجحفًا وغيرَ شرعيّ، فراح، متحدّيًّا الإمبراطور، يزوّجُ العاشقين في كنيسته سِرًّا. ولما اِكتُشفَ أمرُه أُعدم. فصارَ أيقونةً للمحبّين. 

وما بين الأسطورة الفينوسية وعديد الحكايا، نجد هذا اليوم (١٤ فبراير) هو بداية موسم تزاوج الطيور عند إنجلترا وفرنسا. لهذا أصبح سِمةً للرومانسية، يتبادلُ فيه العشاقُ، والأصدقاء أيضًا، بطاقاتِ تهنئة وهدايا. وترقدُ لليوم، في مكتبة لندن، أقدمُ تهنئة في التاريخ، من عاشق لحبيبته في عيد الحب. وكانت من تشارلز، دوق أورليانز، لزوجته حين كان سجينا في برج لندن في القرن ال 15. 

ما تلك العاطفة التي منحتنا كلَّ هذا الميراث الضخم من الأغنيات والأوبرات، والمسرحيات، والروايات، والقصائد الماسّة للمشاعر والمقطوعات الموسيقية الآسرة؟ ما القوة العجيبة التي دفعت الإنسان ليبدع القطع النحتية واللوحات التشكيلية والأساطير، والحكايات الخرافية. ما تلك الكيمياء؟ ما ذلك الشعور الذي يخطف العقل، فيجلب السعادة القصوى في لحظة، وفي اللحظة التالية يجلب اليأسَ والحَزَن؟ إنه الحب. الحبُّ الذي جَمَّلَ العالمَ وغمر البشرَ بالبهجة والفرح. إنه الحبَّ الذي حين يُستخَفُّ به، قد يسبب أشدَّ ألوان العذاب النفسيّ والجسدي والعقلي كذلك.

هو لغزٌ اسمه الحبُّ. يقول رالف إميرسون في كتابه “الجمالُ مُفعِّلُ الحياة”: “الحبُّ يُعلي من طاقة الموهبة، وبه نتغلبُ على العثرات.” أحبِّوا، تَصِحّوا.

***

اليوم في عيد فلانتين، أهدي قرّائي هذه القصيدة:

يحدثُ 

أن يدقَّ القلبَ

عصفورٌ مُهاجرٌ

جاءَ

من أقصى الأ رض يسعى. 

هجيرٌ مسَّه

وهجرٌ فادحُ الوقعِ

أحرق شيئًا من جناحيه

فانزوَى

في حُضنِ الشَّجرْ

وصمَتَ عن الغناءِ،

والشدوُ 

في صدرِه

خبيءٌ 

ثائرٌ

يتقاطرُ 

فوق أوراقِ الشجرِ

وجَعًا محزونًا

خافتًا

كان في سالفِ الدهرِ

صدْحًا.  

أنبأته الشجرةُ الأمُّ

بحكمتِها:

يا شادي الشُّداة

هل يصمتُ عصفورٌ؟!

لا يسكنُ أيكتي صموتٌ

ولا كسيرُ جناحٍ،

إن خِفتَ على حبالِ حنجرتِكِ

اِرحلْ عند الفجرْ

إلى حيثُ الوطنِ البعيدْ

فثمة فتاةٌ يتيمة

تجلسُ 

في ركنِ الدارِ

وحيدةً

لا يسامرُها سميرٌ

ولا يربتُ على ظهرِها

حانٍ

ولا يقطعُ صمتَ بيتِها

إلا دفقُ الأغاني

التي تركَها الموتى 

لنتعزَّى. 

حُطّ بجناحيك المصدوعين

على شرفةِ دارِها

وغنّ

ما تيسّرَ من قصارِ الأغاني

تفتحُ لكَ القلبَ

وتمدُّ كفّيها بالحَبَّ

من شعيرِ الحقولْ

فكُلْ 

واسترِحْ

ونمْ ليلتَكَ فوق صدرِها

فإن شبِعتَ

وصحَّ جناحاك عند العصرْ

أَشبِعْ قلبَها عشقًا

ورَِيًّا

فهي مثلُكَ ظمأى

منذ دهرٍ

وانزعْ بمنقارِك شوكةً

مغروسةً في قلبِها

لتبرأَ

مثلما أنتَ برأتَ

ثم طيرا معًا

جناحًا

بجناحٍ

إلى حيثُ الهوى

والبراء.  

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى