فاطمة ناعوت

المصريون

بقلم/ فاطمة ناعوت - الكاتبة الصحفية والشاعرة الإعلامية المتميزة

سأحكي لكم ثلاثَ حكاياتٍ حقيقيةً حدثت معي، في مصرَ، وخارجها. ولا يَظُنَّن أحدٌ أنني، بحكاياي الثلاث، أودُّ الردَّ على السيدة اللبنانية التي “حاولت” إهانةَ مصرَ والمصريين في ذلك الفيديو الشهير الذي تلفّظتْ فيه بمعجمٍ لا يليقُ بإنسان متحضّر. لا أردُّ عليها؛ ليس فقط لأن مصرَ ليست بحاجة إلى مَن يذود عنها؛ وقد ذادت هي بعراقتها عن الأمم والحضارات، بل لإيماني بأن تلك السيدة لم تُهِن مصرَ، وإن حاولتْ. فلا أحدَ قادرٌ على أن يُهين أحدًا، إلا نفسَه. المرءُ يهينُ نفسَه إن تدَّنى في القول أو الفعل، كما فعلت الأختُ اللبنانية حين أهانت نفسَها وأساءت إلى بلدها بفاحش القول، وكذلك كما يفعلُ بعضُ المصريين، فيسيئون لأنفسهم، وللوطن، للأسف. ولكن الأوطانَ دائمًا أعلى من سلوكات مواطنيها. وهذا يتأكد في الحكايات التالية.
الحكاية الأولى: من المغرب الشقيق. قبل سنوات، كنتُ ضيفةً على إحدى الفضائيات وكان التصوير في ستوديو بمدينة الرباط المغربية. كان الضيفُ المُناظِر لي هو الجهادي التكفيري المغربي الشيخ “محمد الفزازي”. وتاريخه معروف، إذ حُكم عليه بالسجن ثلاثين عامًا إثر تفجيرات الدار البيضاء ٢٠٠٣، وبعد سنوات في المحبس، نال عفوًا ملكيًّا من الملك محمد السادس. في خِِضَّم المناظرة التليفزيونية، تطاول الشيخُ المغربي على مصر ولاك شرفَ بنات ثورتنا، واتهمهنّ بالفُحش. ماذا فعلتُ أنا؟ نهضتُ من مقعدي غاضبةً وأعلنتُ بحسمٍ أنني لن أُكملَ الحلقة إلا بعدما يعتذرُ الرجلُ ويسحب تطاوله على مصر والمصريين. وقلتُ بالحرف: “أنا أحترمُ بلادكم (المغرب)، ولن أخوض في شرفه، مثلما تطاول هذا على شرف بلادي.” هنا ضجَّ الجمهورُ المغربي بالتصفيق قائلا: “تحيا مصر.”
الحكايةُ الثانية: من إحدى الدول العربية الشقيقة، التي كنتُ في زيارتها مؤخرًا للمشاركة في معرضها الدولي للكتاب. وحدث أن سُرقَ هاتفي من حقيبتي في وضَح النهار. ماذا فعلتُ؟ كتبتُ مقالا قلتُ فيه إن هاتفي ربّما أحبَّ تلك البلد حتى أنه رفض السفر معي وفضَّل البقاء هناك لإكمال رحلة التنزّه على شواطئها. ثم أثنيتُ على الشعب الشقيق وشكرت الشرطة التي حاولت مساعدتي.
في الحكايتين السابقتين، حدث أن أساء لي، نفرٌ من البلدين. لكنني لم أسبّ شعبَ هذا البلد، أو ذاك، ولم أُسئ للأرض التي بريئةٌ من سلوك ساكنيها. “التعميمُ” جريمةٌ فكرية، والإساءةُ للأوطان جريمةٌ أخلاقية.
وأما الحكاية الثالثة: فحدثتْ على أرض مصر الطيبة. قبل أسبوعين، غافلني النومُ وأنا أقود سيارتي ليلا، بعد عودتي من حفل تكريمي في أحد النوادي الخيرية. صدمتُ سيارةً من جانبها الأيمن. فنزل صاحبُها غاضبًا يرغي ويزبد. وبعدما فحص الرجلُ سيارتَه وتأكد أن مرآته قد تهشمت، جاءني لينال مني. كنتُ أغالبُ النُعاسَ لسهري عدة ليال في مراجعة بروفة كتابي الجديد، وبالكاد أقوى على فتح عيني، وأقاوم ألا يسقط رأسي على عجلة القيادة. بمجرد أن نظر لي الرجل ولمس الإعياء الذي يُدثّرني، لانت ملامحُه الغاضبةُ وبادرني قائلا: “أنت بخير؟” قلتُ له: “نعم. وأنا المخطئة سامحني، وجاهزة بما تطلبه من تعويض.” وللعجب وجدتُ الرجل يعتذر لي عن انفعاله لحظةَ الاصطدام، ثم قال: “المهم أنك بخير. مش مهم العربية. بس باين على الإجهاد وخطر تسوقي. ممكن تركني سيارتك ونوصلك أنا وابنتي لبيتك.”
هكذا المصريون. وقت الخطر وتهديد الحياة، ينسون المصالحَ الشخصية وينتصرون للحياة. لا أُبرّئ شعبي من الأخطاء التي تُشوّه صورتنا كمصريين في عيون الشعوب الأخرى، لكننا في الأخير شعبٌ طيبٌ وكريم ٌيظهر معدنُه النقيُّ وقت المحن. وسوف نعود يومًا قريبًا إلى سالف عهدنا حين كان المخطئُ يجيدُ قول: “أنا آسف!”

إهداء من الأستاذة فاطمة ناعوت عن جريدة المصري اليوم

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى