فاطمة ناعوت
صحنُ قلقاس أخضر … على مائدة قبطية
بقلم/ فاطمة ناعوت - الكاتبة الصحفية والشاعرة الإعلامية المتميزة
ليس أشهى من حبّة تمرٍ قدّمتها لي يدٌ قبطية لأكسرَ بها صيامي مع آذان المغرب في أحد أيام رمضان ٢٠١٣؛ يوم نزلنا، نحن المصريين، يوم ٢٦ يوليو في ذلك العام، لنطالبَ جيشَنا العظيمَ بحماية هُويتنا والذود عن كرامتنا والضرب على يد الغِلِّ الإخواني البغيض، الكاره أمنَ مصرَ، بعدما أسقطناه عن عرش الجميلة. مازال مذاقُ التمرة الحُلوُ في فمي. قدمت لي التمرة الشهيةَ يدُ صبية مليحة لمحتُ في رُسغِها صليبًا أزرقَ، بلون النيل، ولون عين حورس الفرعونية، فتأكدّتُ أن مصرَ ستظلُّ مصرَ واحدةً عصيةً على الشتات، غنيةً بشعبها الذي لا يعرفُ سوى الحبَّ ولا يسمحُ بالفُرقة والشقاق، مهما حاول المُبغضون. يومها استوثقتُ أن شعبنا الطيبَ الذكيَّ يعرفُ كيف يحفظَ عهدَ الله؛ لنظلَّ في رباطٍ إلى يوم الدين.
وليس أشهى من أقراص الكعك تخبزها الجاراتُ المصريات معًا، مسلمات ومسيحيات، في ليالي رمضان استعدادًا لعيد الفطر، وفي عشيات قدّاسات عيد الميلاد وعيد القيامة، حتى إذا ما عادت الصبيّاتُ في المساء من الأفران يحملن فوق رؤوسهن صاجات الكعك، تبدأ النسوةُ في رشّ السُّكر المطحون فوق أقراص الكعك المتوهّج بنار الفرن ودفء المحبة في قلوبهن. فإذا ما أشرقتْ صباحاتُ العيد، طافتِ الصحونُ بين أبواب الدور محمّلةً بالكعكات والبيتيفور والبسكويت. أقراصُ الكعك لا تعرفُ التمييز بين هلال وصليب وإنجيل ومصحف، فالكلُّ يذوبُ في فيوض الودّ والمحبة، مثلما تذوب فتاتُ الكعك على الألسنٍ الطيبةٍ التي لا تعرفُ إلا كلماتِ السلام.
وليس أشهى من حبّات القلقاس البيضاء، تسبحُ في نهرِ الأخضر الزاهي في صحنٍ تقدّمه لي يدٌ مصريةٌ قبطية، في مثل هذا اليوم من يناير كلَّ عام، في عيد الغطاس المبارك.
يعرفُ قرائي والأقرباءُ عشقي للقلقاس الأخضر. لكنني لم أتعلّم طريقة طهوه، ليس فقط لصعوبته، بل كذلك لأن زوجي وأبنائي للأسف لا يأكلون القلقاس، لسبب غامض.
لهذا لم أفكّر في تعلّم طريقة طهوه. إذْ مستحيلٌ أن أنفق ثلاث ساعات في المطبخ، لطهو طعام، أتناوله وحدي! ما المتعة في ذلك، وما جدوى المذاق الطيب إن لم تصحبه صُحبةٌ طيبة؟! وكنتُ كلّما تاقت نفسي إلى صحنٍ من القلقاس أطلبه من أمي، رحمها الله، لتطهوه لي. وبعدما غدرت بي “سهير” أميّ، كما تغدرُ الأمهاتُ ويرحلن إلى رحاب الله، كانت أمّي الروحية، آنجيل غطّاس، هي الملجأ كلمّا طاف بي شوق القلقاس، قبل أن تغدرني هي الأخرى وتطيرُ إلى رحاب الله. وفي كلِّ عيد غطاس، تصلني عشراتُ الدعوات الطيبات من أُسرٍ مصرية كريمة، تدعوني لتناول القلقاس على مائدتها بين أفراد العائلة، ليس “كأنني” واحدة منهم، بل “لأنني” بالفعل واحدةٌ منهم. فكلُّ بيوت المصريين الطيبين بيتي، وجميعُ عائلات المصريين الشرفاء أقربائي.
عيد الغطاس هو يومُ تعميد السيد المسيح عليه السلام في نهر الأردن. والتعميد في الأدبيات المسيحية، هو غسلُ الإنسان من الخطيئة، وتبرؤٌ رمزي من معصية الله. وذكر المؤرخون أن المسلمين من أهل مصر، كانوا يشاركون في الاحتفال بعيد الغطاس مع أشقائهم المسيحيين، بالخروج إلى نهر النيل والإبحار في المراكب والغناء والسمر.
ولماذا القلقاسُ في عيد الغطاس؟ لأنه زاخرٌ بالرموز والدلالات العميقة التي تُكرّس مفهوم “عيد الغطاس” في الأدبيات المسيحية. فالقلقاسُ ثمرةٌ جذرية تنمو مدفونةً تحت الأرض. وتحت قشرتها السميكة تقبعُ طبقةٌ سامّةٌ تؤذي حنجرةَ الإنسان إن تناولها دون غمرٍ في المياه. فيرمزُ تقشيرُ الثمرة ونزع قشرتها إلى: نزع ثوب الخطيئة عن الإنسان، حتى يتطهّر. ثم يرمز غمرُ الثمرة العارية في الماء إلى غمر الإنسان في ماء العِماد للاغتسال من الآثام. تمامًا كما غُمر جسدُ السيد المسيح، المنزّه عن الخطيئة عليه السلام، في مياه نهر الأردن بمساعدة القديس يوحنا المعمدان، أو النبي “يحيى بن زكريا”، الذي قال فيه القرآنُ الكريم: “يا يَحيَى خُذِ الكتابَ بقوّة، وآتيناه الحُكمَ صبيًّا، وحنانًا من لدُنَّا وزكاةً وكان تقيًّا، وبَارًّا بوالديه ولم يكن جبّارًا عصيَّا، وسلامٌ عليه يوم ولِد ويومَ يموتُ ويومَ يُبَعثُ حيًّا. ” “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن، ويحبُّ شعبَ الوطن.”
إهداء من الأستاذة فاطمة ناعوت عن جريدة المصري اليوم