أبونا أغسطينوس

قصص قصيرة وطرائف 16

للقس أغسطينوس حنا

أفضل منى ومنك (195)

كثيراً ما كان الطبيب الثرى يثور على أخيه الشاب مينا، فقد اعتاد أن يأتى إلى عيادته بثياب رخيصة غير لائقة بكرامة أخيه، كان الطبيب يقدم لأخيه ثياباً حتى لا يجد عذراً، لكن مينا فى بساطة يحمل هذه الهدايا إلى الفقراء ويبقى ببدلته الوحيدة الرخيصة.

كان لهذا الشاب محبة خاصة وتقدير لدى البابا كيرلس الخامس، فقد قال لتلميذه: “فى أية لحظة يأتى مينا إلى دار البطريركية يدخل إلى غرفتى دون استئذان، وإن كنت نائماً توقظنى”. من محبة البابا لهذا الشاب كان يطلب من حين إلى حين آخر أن يذهب إلى بيته ويأكل هناك، حيث كان الشاب يغسل قدمى البابا ويقوم بخدمته أثناء تناوله الطعام.

فى إحدى المرات بعد أن انتهى من تناول الطعام وبدأ ينصرف عاد إلى والدة الشاب ليقول لها: “ربنا معك، ويسندك”!

فكرت السيدة فى نفسها قائلة: “لم يمت لى أحد، لماذا يقول أبونا البطريرك هكذا؟! ألعله يرى شيئاً خفياً يحدث لنا؟! وخجلت أن تسأله عن سبب قوله هذا.

بعد ثلاثة أيام إذ كان البابا فى دار البطريركية قال للذين حوله: “أعدوا الكنيسة لصلاة الجنازة .. أنا ذاهب لأعزى أم مينا” وخرج البابا إلى بيت الشاب ليجد والدة مينا تصرخ بمرارة. وإذ رأت البطريرك قالت له: “لماذا لم تقل لى بصراحة إن مينا يموت!” أجاب أبونا البطريرك: “مينا أفضل منى ومنك”. وتعزّت الأم إذ أدركت مرتبة ابنها فى عينى الله نفسه. تكشف هذه القصة عن معايير هذا الأب التى تتفق مع المعايير السماوية.

***

الجوهرة والعلبة (196)

أهدى الخطيب إلى خطيبته “شبكة” غالية عبارة عن خاتم سوليتير “ألماس” جميل وفاخر ونادر ثمنه 20000 عشرون ألف دولار ووضعه فى علبة قطيفة زرقاء ثمنها خمسة دولارات.

استقبلت الخطيبة هدية الزواج ببرود وفتور وهمسة شكر من تحت الضرس، الأمر الذى أثار دهشة خطيبها فسألها:

– ما رأيك فى الشبكة .. ألم تعجبك؟

– فى الحقيقة العلبة القطيفة جميلة جداً .. تجنن .. عمرى ما شفت قطيفة زرقاء ناعمة وجميلة مثل هذه العلبة الرائعة!

– وما رأيك فى الهدية نفسها .. أقصد خاتم الماس؟

– مش بطال !!

 وهنا استرد الخطيب هدية الزواج فى الحال معتذراً عن الزواج ومضى حزيناً وفسخ الخطبة إذ أدرك عدم صلاحية هذه الخطيبة الغشيمة واختلال حكمها، وعدم إدراكها لقيمة الأشياء، فكيف يأتمنها على نفسه وأمواله وأولاده؟ وكيف يثق فى تقديرها لظروف الحياة وحُسن تصرفها؟!!

أن الغالبية العظمى من البشر اليوم يشبهون هذه الخطيبة العبيطة، وفيما يضحكون عليها فإنما يضحكون على أنفسهم. لقد أعطى الرب كل واحد منهم هدية أغلى وأروع من جميع كنوز الماس والذهب فى العالم، هى الروح الخالدة التى على صورة الله ومثاله فى الخلود والبر والقداسة والحق والعقل والنطق والحركة والحرارة والعاطفة وحرية الإرادة، فأهملوها ولم يعرفوا قيمتها وتركوها جائعة وعطشانة وعريانة وقذرة ملطخة بالخطايا والعيوب والذنوب والأوحال. هذا فى الوقت الذى أعطوا كل الوقت والجهد والاهتمام “للعلبة القطيفة” أى للجسد! لقد أودع الله الروح .. تلك الجوهرة الخالدة الغالية جداً فى علبة (الجسد) التى هى من تراب رخيص قصير العمر سريع الزوال. فإذا بالإنسان الجاهل يهتم بتغذية الجسد بأشهى المأكولات ثلاث مرات فى اليوم ويترك الروح تموت من الجوع والعطشفلا أكل من خبز الحياة الأبدية “كلمة الله” ولو مرة واحدة فى اليوم، أو التناول من جسد الرب ودمه ولو مرة فى الأسبوع وأحياناً تمضى شهور وسنين .. يهتم بنظافة الجسد والاستحمام والتجميل والكسوة بالملابس الجميلة الجذابة، بينما يترك الروح بدون تطهير فى سرّ الاعتراف والتوبة أو اغتسال فى دم المسيح، وبدون تجميل وتزيين بالفضائل والارشاد والتعليم والاكتساء ببرّ المسيح وثياب العرس والخلاص. للأسف أهملنا إهمالاً مهيناً مخجلاً الجوهرة الخالدة وفضلنا عليها عبادة “العلبة الترابية”!!!

***

زهرة عباد الشمس (197)

من الحقائق المعروفة عن زهرة عباد الشمس أنها تتجه دائماً نحو الشمس فى تحركاتها ولا تحول نظرها عن الشمس أبداً. ففى الصباح تتجه بكأسها الكبير وورقها الأصفر الجميل نحو الشمس المشرقة. وفى الظهر حيث تكون الشمس عمودية يستقيم ساقها ويرتفع وجهها إلى أعلى. وعند غروب الشمس تستدير الزهرة إلى الغرب وكأنها تودع الشمس!

لذلك سُميت هذه الزهرة بعباد الشمس وكأنها تتعبد للشمس دائماً. ياله من درس جميل لنا أن نثبّت أنظارنا فى “شمس البر” الرب يسوع المسيح ولا نحوّل أنظارنا عنه فى جميع أوقات العمر وظروف الحياة بحلوها ومُرّها، فهو مصدر حياتنا ونورنا وخلاصنا وإرشادنا وتعزيتنا.

***

يارب إعطنى الصبر !! (197)

طلبت السيدة من الكاهن أثناء زيارته لها أن يصلى لها لكى يعطيها الله الصبر لأنها ضعيفة الإحتمال وسريعة الغضب وكثيرة التذمر والشكوى وتحتاج بشدّة الى الصبر.

فوقف الكاهن يصلىّ معها وقال: يارب أعط عبدتك “فلانة” تجارب وآلام … زد عليها المصائب والخسائر والأحزان …

وهنا صرخت فيه السيدة: بس .. بس … بس كفاية، انت بتدعى علىّ؟ أنا بقولك صلىّ عشان ربنا يدينى الصبر.

فقال لها الكاهن وكيف يأتى الصبر بدون ضيقات وتجارب؟ ان الكتاب يقول “أن الضيق ينشئ صبراً”(رو5 : 3).

***

بقاء الحال من المحال !! (199)

إعتاد أحد الكرماء أن يدعو الشعراء الى ولائم وبعد أن يملأوا بطونهم مما لذ وطاب يبدأون فى إنشاد أشعارهم.

فلما توفى ذلك الرجل وأراد ابنه أن يستمر ذلك التقليد دعا أحد الشعراء من أصدقاء أبيه. ولكن لما كان الحال قد انحدر به وافتقر فقد أعدّ له الغداء من عدس وبصل فقط. ثم قال لضيفه أن يٌسمعه قليلاً من الشعر فقال له:

رحم الله اباك كان                                      يذبح لنا الفراخ والدياك

فرد عليه الأبن قائلاُ:

أعدس وأبصل                                          وفضّك من الزمان ذاكا

***

فن معاملة الرجال !! (200)

تزوجت من رجل سودانى بدون أى خبرة فى التعامل. وعاد زوجها “العريس” بعد يومين من الزواج سعيداً جداً يفتخر بأنه قتل فأراً! فسخرت منه صاحبتنا وقالت مستهزأة “فار” ؟!! ياشيخ روح … أنا افتكرت أنك قتلت أسد أو حتى تعلب … مش مكسوف على طولك وعرضك أنك تفتخر بقتل فار ؟!!

فغضب العريس وثار وقال لها: “أنت طلقون طلقون طلقون”! فذهبت العروس باكية وقالت لأمها “طلقنى بالثلاثة وأنا لسّه فى أول أسبوع من شهر العسل”!

ولما أخبرت أمها بالقصة قالت لها أمها: “يا عبيطة انت لسّه غشيمة وماتعرفيش عقلية الرجاّلة وكبرياءهم … لما يقول لك أنا قتلت فار … يجب أن تظهرى له اعجابك بشجاعته وتقولى له وما خفتش من شنباته … وماخفتش من أسنانه الحامية … وماخفتش من ودانه وديله الطويل …. برافو عليك برافو برافو!

وعادت الزوجة الجديدة وقالت لزوجها: “أنا الظاهر سمعتك غلط وافتكرت انك بتفتخر بقتل صرصار ….

فقال لها: “لا ياست هانم أنا قلت لك أنى قتلت فار وفار كبير محترمّ. فقالت له: ” أنا متأسفة جداً فهمت غلط …

لكن قول لى ألم تخف من شنباته؟

قال: لا.

وماخفتش من أسنانه.؟

قال: لا.

وماخفتش من ديله الطويل؟ّ

قال: لا ماخفتش.

برافو عليك …. برافو … برافو.

فقال لها زوجها: انت رجعون رجعون رجعون!!!

كم من مشاكل خلقت وتعقدت بسبب كلمات سخيفة ويمكن حلها أو كان يمكن تفاديها من الأصل بكلمة طيبة وشئ بسيط من الحكمة وروح المرح والمديح. ياليتنا نحفظ قول الحكيم “الكلام اللين يصرف الغضب والكلام الموجع يهيج السخط” (أم15 : 1).

***

حبة الخردل السحرية (201)

حدث مرة أن مات ابن أرملة فى حادث مفجع. فحزنت المرأة المسكينة حزناً شديداً جداً كاد يفقدها عقلها، ولم يستطع أحد أن يقدم لها أى تعزية أو راحة تخفف من لوعة أحزانها وفداحة خسارتها. وأخيراً خطر لصديق لها أن يأخذها إلى منزل رجل شيخ قديس حيث توسلت إليه أن يستعمل كل قواه الروحية لاستعطاف الله أن يخفف من حزنها حتى تستطيع الصبر والأحتمال. وتكلم رجل الله الشيخ مع المرأة برفق وحنان وقال لها: “احضرى لى حبة خردل (مسطردة) من بيت لم يدخله الحزن والألم أبداً. وأنا سوف أستعملها فى إزالة الألم من حياتك”.

وفى الحال انطلقت الأرملة يحدوها الأمل تفتش عن حبّة الخردل السحرية. وقالت فى نفسها “لأبدأ أولاً بزيارة بيت لعائلة غنية. فإن المآسى أقل احتمالاً أن تطرق أبوابهم” فاقتربت من قصر جميل وطرقت الباب وتحدثت مع المرأة التى رحبت بها:

 –      أنا أبحث عن منزل لم يعرف الحزن أبداً فهل هذا هو المكان المنشود. من

فضلك اخبرينى فالأمر حيوى جداً لى.

– لم يعرف الحزن أبداً؟! صاحت المرأة التى فتحت الباب بدهشة. لقد أتيت يا عزيزتى إلى العنوان الخطأ. وفى تنهد وأسى بدأت تسرد المآسى التى داهمت أسرتها. ثم دعت الأرملة للدخول إلى البيت لتقص عليها بأكثر تفصيلاً تلك الأحداث. ومكثت الأرملة فى ذلك البيت أياماً تستمع فى تعاطف وتأثر.

ولما غادرت الأرملة ذلك القصر لتواصل تفتيشها، ذهبت إلى منزل متواضع على مسافة نصف ميل عنه. وكان الرد بالمثل!. وحيثما سافرت وتنقلت من قصر إلى كوخ كانت تستقبل بأخبار محزنة وقصص مؤلمة، وقد وجد فيها الجميع سيدة تشعر وتفهم وتحسن الأصغاء إلى هذه اللغة. وبعد شهور من الأسفار صارت هذه الأرملة منهمكة بعمق فى آلام الآخرين وأحزانهم لدرجة أنها نسيت البحث عن حبّة الخردل السحرية، ولم تدرى أنها بالفعل قد طردت الحزن من حياتها.

أن الإجابة على الحزن والألم والوحدة، عادة تعتمد على مدى رغبتنا وقدرتنا على مشاركة الآخرين فى آلامهم وأحزانهم. لقد كُتب عن الرب يسوع المسيح أنه: “رجل أوجاع ومختبر الحزن. لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمّلها” (أش53).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى