مرحــة نشيطة مثــل فراشــات الربيــع، تلك العاطفة التي تسيل كالخمرة المعتقة تسكر الفؤاد فتطرق طبوله فرحاً. وتركض المشاعر متلهفة تخط أحرفاً وترسم كلمات، لتنثرها نغمات طروبـة، تخلق حيــاة وتميت حياة. وفجأة تدخل في نفق الصمت... فتُحبَس وراء حاجز الأنا المشتتة ما بين نداء الكينونة وصوت أنانيتها. - وبأي اسم يدعى هذا الــحــاجــز؟ أهو الســلوك الاجتماعي، البيئة المحيطة، المكانة المحتــرمــة؟ - أم أنه جهل الذات...؟! أم ندعوه أقنعة الحياة؟ وكم هي كثيرة... ساحرة في مظهرهـا، مبدعــة في تناسقهــا، لــدرجــةٍ أن الغــالبــيــة العـظــمــى من النــاس لا تــدركهــا إلا حقيقــة ذاتية ظهرت بزمنٍ مــاضٍ، وبضرورة حتمية لتغير طرأ غير مجرى حياتها... وتمضي الأيام ويُخلــعُ قنــاع ويــُلبــَس آخــــر... والوجه الحقيقي شحب لونه ودخل في غيبوبـة طويــلــة، لا يصحى منهــا إلا في زمــن الحقيقــــة القصيــر جــداً... زمــن الرحيل عن عالم الوهــم والشك، عالم لا رابح فيه إلا الخاسر! عندها يكون الإحساس عميقاً حقيقياً، يتفجر حاراً كبــركانٍ في قمة جبل تكلله الثلوج. إحســاس بــالــخيــبــة والغباء في محاورة الحياة. قليلــون جــــداً مــن يجيــدون محــاورة الحيـــاة والرقص على إيقاعها، فهم من لامسوا بأنــاملهم الأثير... وكتبوا على شرائط قوس قزح الزاهيـة أغنـيــات الأشجــار، وحكايــا الســنونــو المســافر والأسرار الزرقاء للنهر المتراقص فوق جمرات الأرض. - فأي معنى للفرح إذا لــم يــوقــف جــاذبيــتــنــا الأرضية ويجعلنا نطير كريشة حمامة زاجلة؟! - وكيف تُــلــون رمــــادية الحــزن إن لــم تُــــدرَك ضَرورَتــه، ومــن ثم امتلاك الرؤية الشفافة بعـد الخروج من نفق الألم؟ - كيف تُؤَجَج شُعلة الحب لتبقى أبدية، فَتُشعِل القناديــل المطفئــة، وتنــور الزوايــا المُعتمة؟ - كيــف للغضــب أن يَبنــي ويُصــلــح ولا يَــهــدم ويَجرح؟ - كيــف لليــأس أن يُــبــــدع ويُــولــّد الأمل ببداية جديدة؟ - كيــف نــدرك معنـى الإيجــاب والسلب، القبح والجمال، الرفض والقبول، الخطأ والصواب، إذا لم نــراهم في عيون الآخرين وردود أفعالهم التي هي مــرآة لأفكــارنــا وتصــرفــاتنــا. وتبقى الصورة مشــوهـة إذا لــم نخلــع أقنعتنــا التــي هــي حاجــة ضعفنــا أمــام التعبــيــر عــن مشاعرنا الحقيقية، والبوح بها بكل صدق. هذه الأقنعة تَلبَس الإنسان فــلا يفكر ولا يتصــرف إلا بحسب قالبها الــذي حــبس ذاته فيه، فموقف غضب، حب، اختيار... يكون رد الفعــل عليــه غامض، وربمــا انفعال زائد أو مشاعر جيــاشــة ولكنها مخنوقة وراء قنــاع عــدم الثقة والتردد والخــوف، أو قــرار أســيــر قنــاع اجتمـاعي أو مادي. فتكون النتيجة إحساس بعــدم الرضــى على الذات وتفكير حائر تائه، يبحث عن مرفأ أمان، وينتفي الاستمتاع بالحياة ويسيطر شعور الرتابة واللا معنى . فتحرير العاطفة منذ الدقات الأولى للوعي، هو أول خطوة في مسيرة الكشف عن كنوزٍ خالدة ساحرة في فائدتها. فالبكاء ليس ضعفاً، والتعبير عن الحب تجــاه الآخر ليــس عيباً أو تقليــل من الشأن، ورفض موقف أو رأي ليس فوضوية أو تمرداً، وإبداء الرأي والإفصاح بدون تكلف عن حاجتنا وآلامنا ليس تطاولاً ولا تطفلاً. الحرية لا تعتــرف بالقيــود وأولــها قيود الذات. فالعصفــور المــدّجــن في قفــص منــذ خروجه مــن البيـضــة لــن يصبــح حــراً وإن أطلــق مــن قفصه، لأنه سيعود إليه ثانية فلم يعــرف غيــره والسماء الواسعة تخيفه. كذلك الإنسان المُدّجن العواطف هو مجرد رقم في عــدادٍ بشري، لأنه سينهي زيــارتــه لهذه الحيــاة بكلمة لا أدري... فالاعتراف بـأن العاطفة ليست عيباً وإنما هي الوقود الــذي يحــرك العقــل، حينهــا لا يكــون التقليــد وتلقــي أفكار الآخرين إبداعا. ولا يكون العنــف تعبيــراً عن الرفض، ولا القتل وانتهــاك حق الآخر دفاعاً عن النفس، ولا الشذوذ علاقة طبيعية لوضع اجتماعي مضطرب، ولا السرقة وسيلة لتأمين حاجة، ولا الحســد وإلحــاق الأذى بالآخــر طريــق لصعود النجاح. فكبــت العاطفــة هــو ســجــن مظلــم وربما هو الجحيــم في أســاطيرنا العتيقة والعــذاب في كتبنا المضيئة بالنور السرمدي.