لينا خورى

العـيــن الثــالـثــة

بقلم/ لينا خورى

‭- ‬أهي‭ ‬رؤية‭ ‬طوباوية‭ ‬أم‭ ‬رؤية‭ ‬للمجرد‭ ‬المتواري‭ ‬وراء‭ ‬غلالات‭ ‬النفس‭ ‬البشرية؟

‭- ‬هي‭ ‬معرفة‭ ‬الغيب‭ ‬أم‭ ‬استشفاف‭ ‬الحدث‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬حُجُب‭ ‬الواقع؟

ماسة‭ ‬ساحرة‭ ‬الصفاء،‭ ‬صقلتها‭ ‬يد‭ ‬مبدعة‭ ‬بشفافية‭ ‬الأثير،‭ ‬ربما‭ ‬مصدرها‭ ‬بقايا‭ ‬حب‭ ‬محترق‭ ‬بنار‭ ‬الفضول‭ ‬تراكمت‭ ‬عليه‭ ‬الذوات‭ ‬الضائعة،‭ ‬صهرتهم‭ ‬طاقة‭ ‬حاضنة‭ ‬للكون‭ ‬أزلية‭ ‬الوجود‭. ‬هذه‭ ‬الماسة‭ ‬لا‭ ‬يشّع‭ ‬بريقها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬العمر‭ ‬الضائعة‭ ‬الإدراك‭ ‬وهي‭ ‬الطفولة‭. ‬يخفت‭ ‬بريقها‭ ‬رويداً‭ ‬رويداً‭ ‬مع‭ ‬تفتح‭ ‬براعم‭ ‬الوعي‭ ‬عند‭ ‬الإنسان،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تتلاشى‭ ‬في‭ ‬يمّ‭ ‬الرغبات‭ ‬الواعية‭. ‬يتسرب‭ ‬قليلاً‭ ‬من‭ ‬بريقها‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬الصفاء‭ ‬الروحي،‭ ‬والجلوس‭ ‬أمام‭ ‬مرآة‭ ‬الذات،‭ ‬لكنه‭ ‬بريق‭ ‬خافت‭ ‬يحجبه‭ ‬ضباب‭ ‬يوميات‭ ‬الحياة‭ ‬المتعبة‭ ‬فيخمد‭ ‬ثانية‭.‬

كل‭ ‬إنسان‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يختبر‭ ‬تلك‭ ‬الماسة،‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬طفل‭ ‬نظرة‭ ‬حب‭ ‬صادقة‭ ‬فيراه‭ ‬يتجاوب‭ ‬بعفوية‭ ‬ساحرة،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬النظرة‭ ‬عكسية‭ ‬لا‭ ‬مبالية‭ ‬متجردة‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬إحساس،‭ ‬فالنفور‭ ‬والهرب‭ ‬ردة‭ ‬فعل‭ ‬هذا‭ ‬الطفل‭… ‬لماذا؟

لأن‭ ‬الطفل‭ ‬لديه‭ ‬رؤية‭ ‬نقية‭ ‬صافية،‭ ‬لم‭ ‬تشوهها‭ ‬أنانية‭ ‬البشر‭ ‬وتمزقها‭ ‬رغبات‭ ‬الحياة،‭ ‬والغريب‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬عندما‭ ‬يدخل‭ ‬مرحلة‭ ‬النضوج‭ ‬يبقى‭ ‬لديه‭ ‬حافز‭ ‬خفي‭ ‬يدفعه‭ ‬باتجاه‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الماسة‭ ‬المفقودة،‭ ‬فكل‭ ‬ما‭ ‬يصل‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬امتلاك‭ ‬مادي‭ ‬ومعنوي،‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬بداخله‭ ‬نقص‭ ‬ما،‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬الشعور‭ ‬بالعجز‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الإدراك‭ ‬بماهية‭ ‬وجود‭ ‬الحياة‭ ‬ومعناها،‭ ‬البعض‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬الغيب‭ ‬ومعرفة‭ ‬المستقبل‭ ‬بأبجدية‭ ‬التكهن‭ ‬والخيال‭ ‬منفذ‭ ‬للتخفيف‭ ‬من‭ ‬شعور‭ ‬النقص‭ ‬هذا،‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يعيد‭ ‬الوهج‭ ‬المفقود،‭ ‬اخراج‭ ‬هذه‭ ‬الماسة‭ ‬من‭ ‬لفائف‭ ‬النسيان‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬أناة،‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬الحب،‭ ‬حب‭ ‬الإنسان‭ ‬للمطلق،‭ ‬للحياة،‭ ‬للإنسان،‭ ‬للطبيعة،‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تبادل‭ ‬الإحساس‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬الوجود‭ ‬بشكل‭ ‬مجرد‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬النظريات‭ ‬البشرية‭ ‬المقدسة‭. ‬فتبادل‭ ‬المشاعر‭ ‬لا‭ ‬يخضع‭ ‬لقانون‭ ‬العرض‭ ‬والطلب،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬إعطاء‭ ‬القيمة‭ ‬لإحساس‭ ‬الآخر‭ ‬وتقبل‭ ‬النظر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عيونه‭ ‬وتحليل‭ ‬رؤيته،‭ ‬هو‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬الأعماق،‭ ‬وبالتالي‭ ‬الارتقاء‭ ‬إلى‭ ‬نشوة‭ ‬الاكتشاف،‭ ‬وتلك‭ ‬هي‭ ‬البصيرة‭ ‬الوقّادة‭. ‬عندها‭ ‬يستطيع‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يلون‭ ‬المستقبل‭ ‬والعالم‭ ‬القادم‭ ‬بألوان‭ ‬استشفها‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬يعيشه‭.‬

فالتواصل‭ ‬الوجداني‭ ‬والفكري‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬الإنسان‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬الخليقة،‭ ‬فيعيش‭ ‬في‭ ‬الحدث‭ ‬كوجود‭ ‬حي،‭ ‬ولكن‭ ‬تلك‭ ‬الميزة‭ ‬فقدت‭ ‬فعاليتها‭ ‬كالأغذية‭ ‬الفاقدة‭ ‬الصلاحية،‭ ‬ربما‭ ‬هو‭ ‬انعدام‭ ‬الوزن‭ ‬المعنوي‭ ‬للكلمة،‭ ‬فأصبحت‭ ‬كصوت‭ ‬إيقاع‭ ‬لطبل‭ ‬أجوف‭. ‬وربما‭ ‬إدمان‭ ‬رؤية‭ ‬البؤس‭ ‬والانتهاكات‭ ‬بحق‭ ‬البشرية‭ ‬والطبيعة،‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬ارتخاء‭ ‬حبل‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬المشاعر،‭ ‬وبالتالي‭ ‬إلى‭ ‬اهترائه‭ ‬تحت‭ ‬عجلات‭ ‬اللامبالاة‭ ‬والقنوط،‭ ‬فأصبح‭ ‬الشواذ‭ ‬قاعدة‭.‬

هل‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬الدخول‭ ‬بدوامة‭ ‬الحزن‭ ‬والألم‭ ‬ليشعر‭ ‬بآلام‭ ‬أخيه‭ ‬الإنسان؟

وهل‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬تطحنه‭ ‬أنياب‭ ‬الجوع‭ ‬ورحى‭ ‬الحروب،‭ ‬ويجلده‭ ‬سوط‭ ‬الظلم‭ ‬والقهر‭ ‬ليسمع‭ ‬أنين‭ ‬المعاناة‭ ‬ويدركها؟

إنسان‭ ‬اليوم‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ترى‭ ‬عينيه،‭ ‬وما‭ ‬تسمع‭ ‬أذنيه‭ ‬وتَلْمُس‭ ‬يديه،‭ ‬وبذلك‭ ‬ترّسخ‭ ‬الثابت‭ ‬وتاه‭ ‬معنى‭ ‬المتغير،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬الحدث‭ ‬أسير‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭.‬

فإن‭ ‬لم‭ ‬يستعيد‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬الحدث،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬البقايا‭ ‬المخفية‭ ‬منه،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يمتلك‭ ‬رغبة‭ ‬السفر‭ ‬في‭ ‬مشاعر‭ ‬الآخر،‭ ‬لن‭ ‬يجد‭ ‬ماسته‭ ‬المفقودة،‭ ‬فتكون‭ ‬العين‭ ‬الثالثة‭ ‬ترى‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬الضباب،‭ ‬وتسبر‭ ‬النوايا‭ ‬وإن‭ ‬احتجبت‭ ‬وراء‭ ‬طبقات‭ ‬متراكمة‭ ‬من‭ ‬الآراء‭ ‬والأفعال‭.‬

طوبى‭ ‬لمن‭ ‬يملك‭ ‬عين‭ ‬البصيرة،‭ ‬ولمن‭ ‬يسعى‭ ‬لإزالة‭ ‬القشور‭ ‬عنها،‭ ‬لأنه‭ ‬يربط‭ ‬الحبل‭ ‬السري‭ ‬بين‭ ‬الوجود‭ ‬والمعنى،‭ ‬ويلبس‭ ‬الكلمة‭ ‬ثوبها‭ ‬الأرجواني،‭ ‬ويعيد‭ ‬للفكر‭ ‬شقيقته‭ ‬الضائعة‭ ‬بين‭ ‬اجترار‭ ‬الماضي‭ ‬وقلق‭ ‬المستقبل‭.‬

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى