شهدت الحقبة الأخيرة من القرن العشرين إنهيار الفلسفة الإشتراكية وإنكماشها التدريجي وبزوغ نجم الرأسمالية وفلسفتها التى تفتح كل الحدود وترفع الحواجز أمام الأسواق المختلفة دون أي ضوابط أو معايير ذات صبغة سياسية أو إنتماءات عرقية أو مذهبية . بدأ العالم تدريجياً يعي نوعاً جديداً من الثقافة الاقتصادية التي تعتمد على جودة المنتج وانخفاض سعره بالإضافة لسهولة الحصول عليه. أنعكس ذلك التحول الاقتصادي من الفلسفة الإشتراكية إلى الفلسفة الرأسمالية على أمزجة الناس والشعوب في معظم بلدان العالم وبدأت تزدهر قيم الفردية والتميز الشخصي . تواكب ذلك مع ظهور ثقافة جديدة بدأت في الإنتشار على نطاق واسع بين شعوب الدول النامية الأشد فقراً التي يطلقون عليها العالم الثالث. هذه الثقافة التي يطلقون عليها الثقافة الاستهلاكية ويحلو للبعض تسميتها بالثقافة السلعية أو الشرائية، أي التي تعتمد على رغبة المتلقي أو الفرد في الشراء لأنواع كثيرة من السلع . ثم جاءت الألفية الجديدة ومعها الثورة المعلوماتية التي زحفت تدريجياً حتى نجحت في ما يمكن تسميته بالتغطية الشاملة بمعني أنها بلغت أقاصي المسكونة بما فيها الدول النامية والفقيرة والمجتمعات الأكثر فقراً. أدت هذه الثورة المعلوماتيه الهائلة والتطور التقني السريع في أنظمة الإتصال والحوسبة الآلية والرقمية – أدت إلى ظهور أسواق جديدة تناسب أنواع جديدة من السلع التي حظيت بالمرتبة الأولي في ترتيب أولويات إهتمام الجمهور من المستهلكين في كل دول العالم. لم تكن تلك الخدمة السلعية الجديدة سوي ما يطلقون عليه أجهزة الإتصال ومشتملاتها وأكسسوارها . وفي غضون بضعة أعوام استحوذ هذا السوق الجديد الوليد على اهتمامات معظم الكيانات الاقتصادية البالغة القوة والعظيمة التأثير، خاصة لما يتميز به هذا السوق الجديد من تنوع منتجاته وكثرة التحديثات التي تتوالي في سرعة جنونية تجعل المستقبل أو المتلقي من جمهور المستهلكين يقف عاجزاً عن متابعة كل جديد ومتطور في أجهزتها وأكسسوارها هذا فضلاً عن إمكانياتها التي تتزايد وتتطور حتى تلبي احتياجات المستهلكين وتوفر لهم أقصي درجات الترقي والتواصل والسرعة في الاتصال، اقترن ذلك التنوع والإنتشار لأجهزة وتقنيات الإتصال والمعلومات الرقمية بنوع آخر من المنتجات التي لاقت رواجاً كبيراً وذيوعاً واسعاً خلال الحقبة الأولي من القرن الواحد والعشرين، و أيضا لم تكن تلك السلعة الجديدة سوى الإعلام المرئي والمسموع، الذي اتخذ صيغة رقمية ليصبح الإعلام الرقمي الذي استحوذ على اهتمام الشريحة العظمى من فئة المثقفين الذين نالوا قسطاً وافراً من التعليم . مع قرب نهاية الحقبة الأولي من القرن الواحد والعشرين وبداية الحقبة الثانية منه، استيقظ العالم على مفاجأة من العيار الثقيل ألا وهي الأزمة الاقتصادية العالمية. وبدأت هذه الأزمة في الولايات المتحدة الأمريكية ثم أمتدت آثارها المباشرة والغير مباشرة حتى بلغت دول العالم الثالث. أنعكست الآثار السلبية لتلك الأزمة في زيادة التضخم وتناقص القيمة الفعلية للعملة المحلية، حاولت الحكومات جاهدة تلافي آثار تلك الأزمة من خلال تخفيض معدلات التضخم ولم تكد تشهد تلك المجتمعات بعض من التعافي الأقتصادي حتى فاجأها ذلك الشبح الدامي المسمي بثورات الربيع العربي . يتضح جلياً عند تسليط الضوء على حالة المجتمع المصري ذلك الأنهيار الاقتصادي الذي نتج عن تلك الثورة التي أدت إلى ضعف مناخ الإستثمار وعزوف المستثمرين وخاصة الأجانب عن ضخ استثماراتهم في مصر، وإزداد ذلك التدهور الاقتصادي مع الإضطرابات السياسية التي شهدتها البلاد وتعاقب أنظمة الحكم حتى تفاقمت تلك الأزمة التي بلغت مداها مع الثورة الثانية في الثلاثون من يونيو من عام 2013م . تجسدت شواهد ذلك الإنهيار الإقتصادي في مظاهر معينة كان أهمها واشدها تأثيرا هو إرتفاع سعر الدولار مقارنة بالجنيه المصري وزيادة معدلات البطالة لتصل إلى درجات غير مسبوقة وندرة الفرص في الوظائف الدائمة بالجهاز الحكومي للدولة أو إنعدامها، هذا بالإضافة للزيادة الجنونية المطردة في أسعار معظم السلع والخدمات بالإضافة لنقص بعض هذه السلع ومنها السلع الدوائية وخاصة تلك الأدوية التي لا يتم تصنيعها محلياً و يعتمد السوق المصري اعتماداً كلياً على الإستيراد بغرض توفيرها للمواطن المستهلك. أدي الإرتفاع المطرد في الأسعار إلى إرتفاع أسعار العقارات حتى بلغت أقصي درجات المبالغة، كذلك أيضاً إرتفاع أسعار السيارات نتيجة زيادة الجمارك وإرتفاع سعر الدولاء . نتيجة لكل العوامل السابقة والأحداث التي لازمتها، تحولت اتجاهات الأعمال لدي الشريحة العظمي من الطبقة العاملة المصرية وخاصة الشباب تحولت إلى إقتصاد السوق والأعمال الحرة، بات الأمل في الحصول على وظيفة حكومية بالقطاع العام شبه معدوماً هذا بالإضافة إلى أن العائد المادي الذي تدره مثل تلك الوظائف يكاد يكون هزيلاً ولا يكفي لسد الاحتياجات الأساسية للمواطن العادي. وأعني هنا أنه لا يكاد أن يكفي الاحتياجات العادية التي تخلو تماماً من أي من مظاهر الرفاهية. لهذا السبب اتجهت معظم أفكار الشباب نحو الأفكار المبتكرة لمشاريع جديدة يزداد فيها الإعتماد على عنصر الإبداع الفكري والتميز الفني الحرفي بعيداً عن تلك المشاريع التي تحتاج إلى رؤوس الأموال الضخمة. ظهرت أنواع جديدة من المهن لم تكن تحظي بشعبية أو قبول في السابق، إحترف بعض الشباب مهنة التصوير الذي لحقه الكثير من التطور التقني والحرفي وأيضاً التطور الفكري من حيث الابتكار في الرؤية واستخدام المساحات والعلاقة بين الظل والضوء. هناك أيضاً مجال تصميم الأزياء، أعمال الكمبيوتر والجرافيك، تنظيم الحفلات والمؤتمرات وغيرها من المجالات الجديدة التي لاقت استحساناً كبيراً وخاصة من فئة الشباب في المرحلة العمرية من العشرون حتى الخامسة والثلاثون . اللافت للنظر أن معظم هذه المجالات الجديدة في اتجاهات الأعمال تتسم بصفة رئيسية وهي أنها تعتمد على المهارة الفنية أو الحرفية ذات التقنية العالية، والمقصود أنها (تلك المهارة) تعتمد على اعتماداً شبه كلياً على الـ ما يمكن تسميته بالثورة الرقمية والمعلوماتيه، الملحوظة الثانية هى أن هذه الفئة من الأعمال الصغيرة تعتمد اعتمادا شبه كليا على فئة الشباب ليكونوا هم العمود الفقري لبنية هيكل الموارد البشرية في تلك المشروعات، والملحوظة الأخيرة هي أن تلك المشروعات هي إعادة صياغة لمهن حرفية موجودة بالفعل (مثل مهنة التصوير، والترزي، ومصمم الجرافيك، وأعمال الدعاية والإعلان والكمبيوتر) لكن تم تجديدها وهيكلتها وتجميلها اجتماعياً وثقافياً لتصبح مهن مرغوبة ومنتشرة ويتهافت عليها الشباب من مختلف المشارب الاجتماعية والثقافية. جدير بالذكر هو اهتمام الدولة المصرية متمثلة في حكوماتها المتتالية بتعضيد تلك الإتجاهات الجديدة في مجال الأعمال وذلك من خلال مشاريع الدعم للمشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر والقروض الميسرة والخدمات الاستشارية .