عاجلفنون وثقافةمقالات رأى مختلفة

ألـــف مـبــــــروك.. قصة قصيرة

بقلم/ إيــلـيــا مقــار - خاص لكاريزما

ماذا يفعل ذلك الوغد الواقف أمام المذبح ، مبتهجا، وموجها نظره بثبات نحو إبنتي! أسير نحوه بتباطؤ بينما تتأبط إبنتي ذراعي الأيسر وتدفعني بإستعجال متأدب لننهي ذلك الممشيالذي يبدوا لي قصيراً للغايةالذي يفصل بيني وبين هذا الوغد. قبل لحظات، وفي غرفة خارج الكنيسة ، وضعت زوجتي اللمسات الأخيرة على هندامي ، والفرحة تتلألأ في عينيها، بما يشبه الدموع. سألتها و هي تنزع منديلا من جيب جاكتتي العلوي وتستبدله، بحرص، بوردة بيضاء متماسكة و يانعة:

المفروض أقوله إيه ده كمان؟

قالت وكأنها تمارس عملاً يحتاج الى دقة وانتباه، دون أن ترفع عينيها عن جيب جاكتتي وتتأكد من إستقامته بأناملها:

أحضنه وقوله … “إنت من النهاردة إبني زي ما هي بنتي“.. قولهحطها في عينيك“.. something nice  يا حبيبي بقا!

رديت بإمتعاض قالباً شفاهي ومحركاً أصابعي فيما يشبه إشارة خارجة – Zomzing nize

توقفت زوجتي عن تهذيب هندامي ونظرت في عينيً محاولة تهذيبي

ياسر!

عندما تأبطت إبنتي ذراعي.. كنت مشغولاً بما سأهمس به في أذن عريسها  حتي لا يسمعنا القس الواقف بجواره. العريس  كإبنتي  يفهم العربية قليلأ بسبب أصوله المصرية.. سأقول

تعرف؟ لو ضايقتها ، هطلع ميتين أمك 

حسناً،  يبدوا تهديدا سوقياً قليلاً ، ولا يليق بالكنيسة ، ولكن الله سيقًدر أنني في مهمة لحماية إبنتي ، كما أن الكلام السوقي لا يتجمل، السوقية تحمل الجدية والإصرار. إن كان علي أن أحتضنه، فسأعتصر ظهره بقبضة يدي حتى يتأوه ، و يعلم أنني أعني كل حرف قلته.  

تتباطأ خطواتي على السجادة الحمراء الفخمة التي تمتد عبر الممر الفاصل بين صفوف من المقاعد يشغلها مئات المدعوون. الجميع بكامل أناقتهم، البدل شديدة السواد والفساتين اللامعة تمتزج مع روائح العطور الغالية المتداخلة وباقات الورود البيضاء التي تلف المكان. أنظر نحو إبنتي فأراها مبتهجة.. لا تنظر نحوي ولكن نحوه.. لا ترى أحدا غيره.. متى إستولى هذا الوغد على قلبها الرقيق، وأين كنت عندما فعل ذلك. كيف يفكر فيها الأن؟ ربما يمني نفسه بليلة ساخنة مع ابنتي، ربما يتخيلها عارية بين ذراعيه، ريما يتخيل نفسه يقبلها قبلات حارة فتستجيب إبنتي الطيبة البلهاء. نطرت متجهما نحو إبنتي وقلت بغضب وكأني أمسكتها في ذات الفعل:

لو ضايقك قوليلي.. I will scare the shit out of him 

قالت إبنتي دون إن تنظر نحوي – Dad! Watch out.. you are at the church… It’s gonna be OK لا بد أن هناك قبيلة ما أو جماعة إنسانية ما إبتدأت ذلك التقليدالسافلوسلمته لنا جيلأ بعد جيل، لتبدوا هذا المجون أمراً طبيعيا ، بل ومدعاة للإحتفال. لا بد إنه التقليد عبر الأجيال ، الذي لم يجعل أحد قبلي يتوقف ليفكر كيف يسلم رجل إبنته لرجل أخر ليمارس معها الجنس. نظرت نحو المدعوين عندما دار بفكري هذا الخاطر. يا للفضيحة. أأحضر أيضاً شهودا ليراقبوا إنكساري وعدم رجولتي؟ هل إبتساماتهم العريضةبينما أمر بإبنتي عبر صفوفهمهي في الحقيقة سخرية مني ؟  أم مباركة جماعية لممارسة بشرية متعاقبة ،يمارس فيها رجل الجنس مع امرأة، حدث أنها في هذه المرةإبنتي؟ هؤلاء المتطفلون يجعلون من مشاركتهم في الزفاف دليلا على شرعيته، ووعداً بحماية المجتمع لهذا الزواج! 

أتذكر، وكنت وقتها صغيراً في مصر، أننا أستيقظنا فجراً على صوت هياج في الشارع، تجمع الجيران الغاضبين المتوعدين ، لأنصباحالكاشير في البقالة الوحيدة بالشارعوالتي كنت أظنها تحبنيقضت ليلتها في شقةهشام، مستغلين سفر أبوه الحاج وأمه الحاجة للعمرة. أمعن الجيراناللذين كانوا يوماً لطفاءفي تجريس صباح وهشام، وزفواصباح في الشارع وهي تجري وسطهم تستر نفسها بملاية قبل أن تختفي للأبد. لم أفهم سبب غضب الجيران وقتها. قضيت ليلتها بائساً لانني كنت أعتقد أن صباح تحبني.. كانت تعض شفتها السفلى وتذبل عيناها السوداوتان في كل مرة تراني.. وعلى الرغم من أنني كنت وقتها في المرحلة الإعدادية، إلا أنها كانت تناديني ياأستاذ ياسرفيرتج جسدي برجولة مبكرة بمجرد أن أخلو بنفسي في غرفتي. صباح كانت تشعرني بأنني رجلها، ولكن في تلك الليلة أدركت أنني لم أكن رجلها الوحيد.  إتفقالعقلاءعلى عدم الإتصال بالشرطة كرامة للحاج أبو هشام الغائب. بعد أسابيع، كانت هناك زفة أخرى ، فقد تزوج هشام على عجل من زميلته في الجامعة. أراد له والديه، المتيسرين، أن يكمل نصف دينه ، حماية لشبابه المتفجر ، ودرءاً للمعصية ، وإخراساً للألسنة. شارك نفس الجيران في الزفة ، ولكن هذه المرة بطريقة مختلفة. 

ما الفرق بينالزفتين؟ الفرق يكمن في ذلك الإحساسالغير مبررلدى هؤلاء الحمقى بحقهم في الموافقة على ممارسة أفراد القطيع للجنس. لكي تصعد بفتاة الى شقتك، يجب الحصول على موافقتنا، وإن لم تحصل، سنمعن في تجريسك. ولأننا منتوجات لمجتمعات كاذبة، أطلقنا على هذا التدخل السافر أسماء طيبة مثلحماية الشرف، بينما هو في الحقيقة إنعكاس لإحساس جماعي بعدم الأمان في علاقاتنا الهشة، إحم عريني في غيابي وسأحمي عرينك. في تلك الليلة، أدركتكما أدرك هشام وصباح بالتأكيد  أن الجنس علاقة أكثر تعقيدا من كونها رجل وإمرأة إرتضيا أن يشاركا جسديهما. الجنس علاقة جماعية بينك، وفتاتك، والجيران.

كان عمر صغيرتي سنوات خمس عندما هاجرنا من مصر الى الولايات المتحدة. مازالت تفهم الكثير من العربية، وتتحدثها بطريقة مبهجة ومضحكة.. إبتسمت وأنا أسترجع بعض كلماتها

بابا.. اهنا مش تروه أند تيتة ؟ 

إسمها أحنا مش هنروح عند تيتة؟

يووووه stop كنت أبتسم وعيناي متحجرتان خشية أن تنفجر منهما الدموع .إبتسمت جارتي العجوز ذات الشعر الأبيض المصفف بعناية والمكياج الوقور عندما كنت أمر بجوارها ورتبت على ذراعي بحنو ، وكأنها تدرك ما أمر به.. ربما هناك من يشعر بي إذن. يزعجني أن زوجتي وأصدقائي لا يدركون ما أمر به، يعتبرون أن غضبي وعدم إرتياحي سببه حزني لأن صغيرتي ستتزوج، يتعاملون جميعا معى وكأننيبلطجي الفرح“. يخشون من لحظات جنوني وإنفعالي ويعيدوا تذكيرى بدوري البسيط. “كل ما عليك هو أن:

تسلم إبنتك لعريسها، تحتضنه، تهنئهما بالزفاف، تقبلهما، ثم تعود الي مكانك المخصص ماذا عساه أن يكون مكاني المخصص ذاك؟ أب سابق؟ مرحلة إنتهت من حياة أبنتي..؟ مكالمات متباعدة….؟ لقاءات في الأعياد.. رسائل أسفة لأنها لم تتمكن من زيارتنا منذ فترة ، لأن أطفالها يشغلون كل وقتها؟ نظرت نحو إبنتي معاتبا…. الطرقة الممتدة أصبحت قصيرة .. خطوات تبعد بيني وبين المذبح.. لمحت إعوجاجاً في السجادة الممتدة.. إنحنيت أفردهافإندفع نحوي عدد من الشبان يتولون عني هذه المهمة.. نهرتهم بحزم… – I’ll do it myself

جذبتني إبنتي برفق تحملني على الوقوف مجددا.. قالت وهي تضم شفتيها متفهمة – Dad… it’s time

إستقمت مستجيبا. أعلم يا صغيرتي أن الوقت قد حان.. هكذا حدثت نفسي.. كنت فقط أريد لحظات أخرى معك…. كيف كبرتي وأصبحتي عروساً؟ متى كبرت أنا وأصبحت أباً لعروس جميلة. مازلت أشعر أنني شاباً في الثلاثين من عمري على الأكثر، شعري الرمادي المتسلل الي جوانب رأسي يضيف الى جاذبيتي، نجاحي في عملي يجعلني أكثر حظاً من أبناء الثلاثينيات ، وشبابي مع خبرتي يجعلاني أفضل أداءاً . يبدوا أنني قد كبرت حقاً دون أن أدري. مرت السنون.. لم أشبع بعد من إبنتي كي أسلمها لذلك الوغد  الذي ظهر في حياتها منذ أشهر معدودة.. ماذا يعرف عنها ليقطف زهرة حياتي الجميلةهل يعلم كيف كانت تستيقظ من النوم وهي صغيرة وتبكي طلباً للبن، وترفضه ، رغم أنها نصف نائمة ، إن لم يكن من النوع الذي تفضله؟ هل رأى فرحتها عندما أهديتها أولعروسةقطنية وكيف قررنا سوياً أن نسميهاتوتة؟ هل ترك عمله متوجها لمدرستها عندما إتصلت به باكية لأنها نسيت حقيبتها في المدرسة؟ هل رأى كيف كنت أنكزها وأهرب، فتجري ورائي غاضبة بخطواتها الصغيرة فلا تهدأ حتى تنكزني أيضا. هل إصطحبها الى دروس السباحة وساعدها في تغيير ملابسها، واستنفر همتها إثناء التدريب وسط محاولات أمها لتهدئته، وإمتعاض أمهات وأباء الأطفال الأخرين؟ 

تسللت ذكريات طفولتها الى عقلي.. ذكريات طفولتها فقط. إجتهدت إن أتذكر شيئا يذكر خلال السنوات الفائتة فلم أستطع. أين كنت في حياة إبنتي خلال سنوات مراهقتها وشبابها؟ حاولت مرة ومرات..لا يحضرني شيء.  ذهبنا في أجازات جماعية قليلة.. ولكنني لا أراها عندما أسترجع صور تلك الأحداث في عقلي.. وإن إسترجعتها ، لا تحضرني مواقف متميزة مع إبنتي أو مع أي أحد أخر.. وكأني لم أحيا تلك المواقف.. وكأنني مررت بها دون أن أعيشها. ربما أحتاج الى شيئ من التركيز.. يا الهي.. يجب أن أتذكر شيئاً قبل أن أصل الى عريسهاأدركت أنني أضغط على يدها متشنجاً ، وكأنني أطلب منها المساعدة.. سألتني

بابا .. أنت كويس؟!! 

لم أجب.. نظرت نحوها بأسف.. لا بل بكثير من الأسف.. بل بكثير من الإحساس بالذنبيقتلني أن أدرك الأن أنني أحتاج الي المزيد من الوقت.. أحتاج للحظات لأعتذر لإبنتي لأنني قضيت سنواتي السابقة محارباً من أجل النجاحمجاهداً لأرضي أناساً لا يهتمون لي ولا أبه بهممرت سنوات شبابك يا إبنتي دون أن أعيشها معك.. كنت أؤدي دوري الذي رسمه لي القطيع كما رسمه لأسلافي، كنت أذهب للصيد لتتمكن أسرتي من الحياة ، بينما يحمي الأخرون عريني. فقط أريد بعض الوقت.. أريد أن تمتد تلك الطرقة قليل.. قليلا بما يكفي  لنجوب أنا وأنت العالمانا وأنتي فقطأعلم أنك تحبين السفرحسناً ربما يستغرق هذا بعض الوقت.. لتكن لحظات أصطحبك فيها للجامعة.. وأستمع بإهتمام لقصص زملائك المزعجين.. لقصص هؤلاء الشبان الذي رق لهم قلبك في رحلته نحو الحب والحياة.. لحظات أعرف فيها أسماء صديقاتك وأصدقائك الذين لم أهتم أن أعرفهم خلال السنوات الماضية. ولكن هل أستحق حقاً تلك الفرصة؟ كنت أباً مهملاً فلا داع لأن أكون أيضاً أنانيا…. خطوات قليلة للغاية تفصلني وأبنتي عن العريس.. لم يعد هناك داعِ للتباطؤ.. تسارعت خطواتي لتسبق خطوات أبنتي قليلاصعدنا درجات السلم المؤدي للمذبح حيث كان يقف العريس ، فتح ذراعيه بأدب حذر لإحتضانيإستسلمت لذراعيه ولم أنطق.. مرت لحظات.. مسح الكاهن على كتفي برفق .. بينما الدموع تغمر عيون إبنتي الجميلةكان علىً أن أقول شيئاقلت بتردد

مبروكأعنيالف مبروك

ثم عدت لأخذ موقعي الجديد ، وسط تصفيق القطيع. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى