في ثمانينيات القرن الماضي، قدم الفنان سمير صبري برنامج منوعات يسمى هذا المساء ، بقاعة تتناثر فيها طاولات يجلس حولها مشاهير من مجالات مختلفة، ليطوف بينهم و يحاورهم. و في حلقة من الحلقات، استضاف شابا نحيفا يرتدي سلسلة -حسبما أذكر- و يهوى تقليد رقصات مايكل جاكسون، و كان يبدو أنه مستخف بالشاب و ما يفعل، لأنه استضاف بعد ذلك الدكتور أحمد زويل -الذي لم يكن قد حصل على نوبل بعد- كي يظهر التناقض بين العلماء و ما اصطلح على تسميته "شباب اليومين دول". طلب سمير صبري من الدكتور زويل أن يعلق على ما يفعله هذا الشاب، و أن ينصح الشباب الذين يضيعون وقتهم في هذه الأمور بدلا من العمل الجاد. قال زويل شيئا فكرت فيه طويلا و لا يزال عالقا بذهني حتى اليوم. قال بما معناه إن ليس مطلوبا من كل الناس أن يكونوا علماء. و إن هذا الشاب لو كان موهوبا فعلا في الرقص الاستعراضي فعليه أن ينمي هذه الموهبة بالتدريب و الاحتراف كي ينجح فيها، فالفن شيء مهم في هذه الحياة كما هو العلم. أدهشتني هذه العبارة -كما أدهشت سمير صبري و الشاب نفسه فيما يبدو- و تركت أثرا كبيرا في نفسي. فقد جعلتني - و أنا في سن مبكرة- ألتفت لفكرة التعددية و التنوع في المجتمع.. و مدى عبثية السعى لتنميط الناس و جعلهم يتطابقون في قالب واحد. حقا.. ليس مطلوبا أن يسعى كل الشباب للالتحاق بالطب أو الهندسة أو الصيدلة كما هي الثقافة الشائعة، لأن كل ميسر لما خلق له.. افعل ما تبرع فيه و تحبه و تشعر أنك ستكون ناجحا فيه، فالإداري الناجح أفضل من الطبيب الفاشل، و المجتمع الصحي هو من يمارس فيه كل شخص مهنته ببراعة. ليس مطلوبا من كل الناس أن يتبعوا تيارا محددا أو طيفا سياسيا واحدا، فاحترام التعددية هو ما يخلق ثقافة ديموقراطية حقيقية، و المجتمعات الأكثر تعددية و انفتاحا هي -غالبا- الأكثر حراكا و تقدما و تسامحا مع الآخر. قلت لنفسي: حين تختار لنفسك شيئا ما فإن هذا لا يعني أن هذا الاختيار مناسب لغيرك بالضرورة.. و حين تجد أن هناك رأيا صحيحا، فإن هذا ليس ملزما لأحد غيرك بالضرورة..لا تكن كشخص ارتدى نظارة طبية و وجد أنه يرى بها جيدا، فسعى جاهدا ليجعل الآخرين حوله يرتدونها. من حقك أن تعتنق أسلوب حياة معين، و من حق غيرك أن يتبنى أسلوب حياة مختلف.. لو لم تعطه هذا الحق، فهذا يعني ضمنيا الإقرار بحقه في منعك من ممارسة حياتك كما تريد، لو تفوق عليك في القوة.. لتصبح الحياة -كما كانت في الحضارات البدائية- سلسلة من الصراعات الهمجية التي لا تنتهي! تخيل معي شخصين، يعتقد أحدهما أن البطيخ لذيذ، بينما يعتقد الآخر أن الموز ألذ. فراحا يتصارعان و يتجادلان ليثبت كل منهما أنه على صواب! هذا الموقف العبثي هو ما نراه حولنا اليوم في كل مكان.. ما يناسبك قد لا يناسب غيرك.. و النصيحة التي تنفعك قد لا تنفع غيرك.. لأن حياتك غير حياة الآخرين، و تحضرك مبني على احترام هذا الاختلاف. ربما كانت عبارة الدكتور زويل بسيطة لا تحتمل كل هذه الدلالات، إلا أن تأثيرها عندي كان ككرة الثلج، كالبذرة التي انغرست في ذهني لتكبر مع الوقت و تزدهر و تصبح احتراما لقيمة التعددية و احترام الاختلاف.. و هو ما ينعكس في كثير من كتاباتي و ما أجاهد نفسي عليه فعلا على المستوى الشخصي. رحم الله الدكتور أحمد زويل الذي توفي منذ ساعات، تاركا أثرا عظيما في العلوم الطبيعية و أيضا في نفوسنا جميعا.