قسم كتابه إلى واحد وثلاثين جزءاً،ضاع منها الآن الأجزاء الثلاثة عشر الأولى، ووصلت إلينا عبر الدهور الأجزاء الثمانية عشر الباقية. -أكرم الأنهار قاطبة وهو نهر النيل الذى يسميه هوميروس أيجيبتوس، ثم نصف سائر ما يثير الاعجاب مما يوجد فى هذه البلاد. - حكاية تماسيح النيل: كيف كانت مصر في القرن الرابع الميلادي سؤال مهم يجيب عنه كتاب نادر لرحالة روماني زار البلاد وكتب عنها .في هذا الكتاب المهم الذى لم يعد متدوالا حيث ترجمه الدكتور وهيب كامل وبدءا الكتاب بتعريف الرحالة اميانوس كان أميانوس يونانى المولد، وكانت مسقط رأسه أنطاكية عاصمة من عواصم الشرق اليونانى ، ومع ذلك فقد آثر أن يكتب تاريخه باللاتينية. وأغلب الظن أنه منذ تطلع إلى الانخراط فى سلك الجندية عكف على دراسة اللاتينية فأتقنها، فهى لغة الدولة الرسمية، ولغة الرؤساء الذين يملكون الخفض والرفع، ولغة المداولات الحربية يوم ترسم الخطط وتنظم ميادين القتال، وهى بعد لغة الجند مهما انحرفت عن القواعد المألوفة والتعبيرات المأثورة. ولكن إتقانه اللغة اللاتينية لا يبررإهماله للغته الأولى، وهو أقدر ولا شك على التعبير بها، والإفصاح عن أفكاره عن طريقها، وهى بعد لغة قومه الذين يؤثر أن يذيع صيته ويشتهر فضله بينهم. ولكن أميانوس آثر الكتابة باللاتينية لعوامل نظنها كثيرة، فهى لغة روما التى تنبأ لها بالخلود، وأخر باللغة أن تخلد مع أصحابها، وهى لغة الخاصة الذين يؤبه لرأيهم فى المسائل الأدبية، وهى لغة الاصطلاحات الحربية والادارية التى يصعب ترجمتها، وهى لغة التقارير الرسمية التى يعتمد عليها فى تأليفه، وهى لغة المراجع التى يرجع إليها فى تقصى الأسباب والمقدمات. ولا شك عندنا فى أنه عندما خطرت لأميانوس فكرة كتابة التاريخ، كان هدفه كتابة التاريخ المعاصر له الذى اشترك أحياناً فى بعض أحداثه. وظل هذا هدفه إلى أن فرغ من كتابة تاريخه، بدليل بأمد طويل. ولما استقر عزم أميانوس على كتابة التاريخ المعاصر واجهته مشكلة كبرى كثيراً ما تواجه غيره من المؤرخين. فمن أين يبدأ؟. لقد هداه حسه التاريخى المرهف إلى أن التاريخ حلقات متصلة لا تنقطع، هذا إلى أن الحوادث المعاصرة لا تعدو أن تكون نتائج لمقدمات مضت فى الأزمنة الخوالى. لقد هدته نظرته النقدية الصائبة إلى أن آخر فحول المؤرخين الرومان هو تاسيتوس الذى سرد تاريخ روما إلى عصر الامبراطور دوميتيانوس (81- 86م)، فلا بأس إذاً من أن يتخذ تاريخ تاسيتوس أساساً لروايته، وأن يبدأ هو حيث انتهى تاسيتوس وأن يكمل تاريخه بعد إعتلاء الامبراطور نيرفا عرش روما سنة 96م. إلى موت الامبراطور فالنس فى معركة أدريانوبل سنة 378م. وقسم كتابه إلى واحد وثلاثين جزءاً،ضاع منها الآن الأجزاء الثلاثة عشر الأولى، ووصلت إلينا عبر الدهور الأجزاء الثمانية عشر الباقية، وهى تتناول حوادث الأعوام الخمسة والعشرين الواقعة بين سنة 353م. وهى السنة السابعة عشرة من حكم قسطنطين الثانى، وبين سنة 378م حين دارت موقعة أدريانوبل، فلابد إذاً أن الأجزاء الثلاثة عشر الأولى قد مرت مراً هينا رفيقا بحوادث السبع والخمسين والمائتى سنة التى تناولتها، ولا غرو فهى لم تكن عند مؤلفها أكثر من مقدمة. وصف مصر من حوادث عام 363. ك22 ، 15، 1-32 وتمشياً مع مقتضى المقام، لنتناول الآن باختصار الموضوعات المصرية التى تناولتها بإسهاب فى حديثى عن أعمال هادريانوس وسيفيروس، راويا فى الأغلب ما شاهدت بنفسى. الشعب المصرى هو أقدم الشعوب طراً، إلا أن تكون المنافسة بينه وبين الاسكيثيين على العراقة. ويحيط به من ناحية الجنوب خليج سرته ورأسا فيكوس وبوريون وقبيلة الجارامنتيين وشعوب أخرى مختلفة. وتمتد مصر فى ناحية الشرق إلى الفنتينى ومروى- وكلتاهما من المدن الإثيوبية- وإلى الشلالات والبحر الأحمر وعرب سيناء الذين نسميهم الآن الشرقيين أما من ناحية الشمال فمصر تكون جزءاً من الرقعة المترامية التى تبدأ منها آسيا والولايات السورية، ويحدها من الشرق البحر الايسياكى الذى سماه البعض البحر البارثينى. ومن المناسب هنا أن نشير باختصار إلى أكرم الأنهار قاطبة وهو نهر النيل الذى يسميه هوميروس أيجيبتوس، ثم نصف سائر ما يثير الاعجاب مما يوجد فى هذهالبلاد. إن منابع النيل ستظل- فيما استقر فى روعى على الاقل- مجهولة فى الأجيال القادمة كما هى الآن. ولكن حيث أن الشعراء المبدعين والجغرافيين لا يستقرون على رأى، وهم يدلون بآراء متضاربه فى هذا الموضوع المبهم، فسوف أسوق فى كلمات قليلة من آرائهم ما أعتقد أنه يقارب الحقيقة. فبعض الفلاسفة الطبيعيين يذهبون إلى أن الشتاء البارد فى الجهات الشمالية يجمد كل شئ ويكون كتلاً كبيرة من الثلج تذوب بفعل الشمس المتوهجة فتكون سحاباً مشبعاً بالرطوبة الزائدة فإذا دفعتها الرياح الموسمية صوب الجنوب هطلت الأمطار بتأثير الحرارة الشديدة وسببت فيما يعتقدون الزيادة الكبيرة فى ماء النهر. ويذهب آخرون إلى أن الأمطار الإثيربية التى يقال إنها تسقط بغزارة فى تلك المناطق فى فصل الحرارة القائظة هى السبب فى فيضان النهر فى أوقات معلومة من السنة. ويبدو أن كلاً من هذين الرأيين يجافى الحقيقة، إذ يقال إن الأمطارلا تسقط البتة فى إثيربية أو أنها تسقط على فترات متباعدة. وثمة رأى أكثر ذيوعاً من هذين الرأيين يذهب إلى أن الرياح الرائدة وبعدها الرياح الموسمية تهب لمدة خمسة وأربعين يوماً متتالية، فتصد تيار النهر وتقلل سرعته فيرتفع ماؤه. وفيما تغالبه الرياح المضادة يرتفع ماؤه أكثر فأكثر حيث أن قوة الريح تدفعه إلى الوراء وتيار مياهه الجارف يدفعه إلى الأمام، فإذا علا غطى كل شئ وغمر الأرض فى السهول والوديان وبدا كأنه بحر لجى. ويذهب الملك جوبا، معتمداً على نصوص الكتب الفينيقية، إلى أن النيل ينبع من جبل واقع فى موريتانيا ويطل على المحيط، ويقول إن الأدلة على صحة هذا الرأى أن الأسماك والنباتات والحيوانات التى توجد فى تلك المستنقعات تشبه ما يوجد منها فى حوض النيل. ويتخذ النيل فى مجراه خلال البلاد الاثيوبية الأسماء المختلفة التى تطلقها عليه الشعوب المختلفة أثناء انسيابه فى أراضيها. وهو يتقدم بمائه الغزير الثرى حتى يصل إلى الشلالات- وهى صخور شديدة الانحدار- وينحدر منها متدفقاً أكثر منه منساباً. ومن هنا ألجأت الضرورة قبيلة الآتيين- الذين كانوا فيما مضى يسكنون بالقرب من النهر فقلت حاسة السمع عندهم من استمرار الضوضاء- إلى النزوح عن أراضيها إلى أراضأكثر هدوءاً. وبعد الشلالات ينساب النهر بلطف ويصب فى البحر خلال مصبات سبعة كل منهما كالنهر القائم برأسه فى مظهره وفائدته. وليس للنهر فى مجراه فى مصر روافد خارجية تزوده بالماء مطلقاً. وهذه الفروع السبعة- وهى غير القنوات العديدة التى تخرج من فروع رئيسية وتصب فى غيرها وتكاد تضارعها أتساعاً- صالحة للملاحة وكثيرة الأمواج وقد أطلق عليها القدماء الأسماء الآتية: الفرغ الهرقلى والسبنيتى والبولبيطى والفاثميتى والمنديسى والتانيسى والببلوزى. ينبع النهر إذاً من هناك كما ذكرنا ويسير من المستنقعات حتى يصل إلى الشلالات ويكون جزائر كثيرة يتسع بعضها فيبلغ حداً من السعة بحيث أن تيار النهر لا يعبر الواحدة منها فى أقل من ثلاثة أيام. وتشتهر من هذه الجزائر إثنتان هما مروى والدلتا، ومن الواضح أن الدلتا اتخذت إسمها من شكل الحرف الهجائى اليونانى المثلث"دلتا". وعندما تقع الشمس فى مدار السرطان يبدأ النهر فى الزيادة ويستمر مائة يوم إلى أن تتحول الشمس إلى الميزان ثم ينخفض بعدها، وعندما يقل ماؤه يكشف عن السهول التى كانت وقت فيضانه صالحة للملاحة وأصبحت الآن بعد إنحسار مائه صالحة لركوب الخيل. ومهما يكن من شئ فإن ضرر الفيضان المرتفع يعادل ضرر الفيضان المنخفض، لأن النهر فى الحالة الأولى يغمر الأرض مدة طويلة جداً بمائه الغزير فيؤخر حرث الحقول، كما أن الفيضان المنخفض يهدد البلاد بمحصول ضعيف. ولا يتمنى مالك قط أن يرتفع النهر أكثر من ست عشرة ذراعاً. وإذا اتفق أن كان الفيضان متوسطاً فقد تؤتى الحبوب التى تبذر فى أرض خصبة قرابة سبعين ضعفاً. والنيل هو النهر الوحيدفى العالم الذى لا يثير رياحاً مطلقا. ومصر غنية بالحيوانات المختلفة، منها البرية ومنها البحرية ومنها ما تعيش فى البر والبحر ومن هنا تسمى الحيوانات البرمائية. وفى السهول الجافة يرعى الغزال والجاموس والاسبرنتورنيقية وهى تثير الضحك لشدة قبحها، وغيرها من الحيوانات التى لا يعنينا ذكرها الآن. ومن الوحوش المائية التمساح وهو كثير فى كل أنحاء هذه البلاد، وهو وحش ذو أربع فتاك خبيث، يعيش على اليابسة وفى الماء على السواء. وليس له لسان ويحرك الفك العلوى فقط، وأسنانه مصفوفة كالمشط وهو يلج فى افتراس كل ما يلاقى بعضات مهلكة، ويلد التمساح صغاره من بيضات تشبه بيض الأوز. فإذا علمت أن له أصابع أيضاً إلى جانب مازود به من مخالب عرفت أنه يقوى حتى على قلب السفن ببأسه الشديد. ويبلغ أحياناً الثمانى عشرة ذراعاً طولا، وفى الليل يستكن فى الماء، أما فى النهار فيتشمس على الأرض معتمداً على صفاقة جلده الذى يبلغ من الغلظة أن ضربات المدافع لا تكاد تنفذ فى جلد ظهره السميك. وبالرغم من أن التماسيح ضارية على الدوام، فإنها تنبذ ضراوتها وتهدأ كأنما عقدت هدنة عسكرية طوال أيام العيد السبعة التى يحتفل فيها كهنة منف بميلاد النيل. وتهلك التماسيح بعضها بموت طارئ وبعضها تبقر بطونها الرقيقة الزعانف الظهرية المسننة لوحوش تشبه الدلفين وتعيش فى نهر النيل، وبعضها يموت الميتة الآتى وصفها: إذا كان التمساح مستلقيا على الأرض، فإن التروخيلوس- وهو طائر صغير- يحوم حوله أثناء بحثه عن فتات الطعام. ويدغدغ التمساح فى أصداغه دغدغة لذيذة. فيفغر التمساح فاه فيصل الطائر إلى أشداقه. فإذا رأى الفأر البحرى- وهو من فصيلة النمس- فاه التمساح فاغراً دخله، ومزق بطنه ونهش أحشاؤه ونفذ خارجا. ومع جرأة التمساح مع من يفرون منه، فإنه يكون شديد الجبن إن وجد فى مهاجمه جرأة، وهو على الأرض أحد بصراً منه فى الماء ويقال إنه لا يتناول طعاماً البتة طوال شهور الشتاء الأربعة وتعيش أفراس البحر أيضاً فى تلك البلاد وهى أكثر حكمة من سائر العجماوات. ولها حوافر مشقوقة مثل الخيول، وأذناب قصيرة ويكفى هنا أن نسوق مثلين على خبثها: فإن هذا الوحش يعد مأواه بين أعشاب عالية موحلة شديدة الكثافة، ويتحين فرصة الهدوء فى حرص وحذر، فإذا آنس مزيداً من الأمن خرج ليرعى الحبوب. فإذا ما امتلأ وبدأ آخر الأمر فى الرجوع قفل راجعاً بخطى معكوسة تاركا وراءه أثاراً عديدة لحوافره حتى لا يقتفى الصيادون خط سير واحد واضح فيجدونه ويقتلونه بدون عناء. وكذلك إذا شعر بالثقل نتيجة لشدة نهمه وامتلاء بطنه، أدار أفخاذه وقوائمه على غاب حديث الكسر، فتجرح قوائمه وينساب الدم فيخفف من امتلائه، ثم يغطى الأجزاء المثلومة بالطين إلى أن تلتئم.