وفى منتصف الأسبوع الثانى من الشهر الماضى, كانت أسرتى تستعد لبدء لحظات فرح وسرور, ولِما لا فهى تنتظر ميلاد طفل جديد فى العائلة .. أحسست الفرح من مقولة ابن العم, تلك التى سمعتها حينما عرف أن مولوده سيكون ذكراً وقال " إن عائلتنا ستزداد رجلاّ ", هذا لا يتناقض مع إنه كان يريد طفلة تّشبه أمها وتُصبح صديقتها .. وعند لحظة الولادة, سرعان ما تحول الأمر إلى نقيضه .. ظهرت مشاعر الخوف والتردد على الطبيب, فهناك عيب خلقى حاد فى القلب لدى الطفل المولود والحالة حرجة بشكل رهيب .. مشاعر الجميع تحتاج كتب لوصفها .. وهناك بدأت رحلة كانت طويلة للغاية مع إنها لا تتعدى الثلاثة أيام .. رحلة انتهت فى مكتب الصحة عند باب عليه لافتة مُدون عليها كلمة " وفيات " وأسفلها كتابة رديئة بخط اليد تقول the end " ", ربما كتبها أحَدٌ هواة تدوين أسمائهم, ولكنه قال الحقيقة .. موظف جالس على مكتبه, فتح دفتر أخضر اللون, هذا الذى تذكره السيدات فى صعيد مصر بلونه المميز عند ممارستهم للبكاء الغنائى فى المأتم, بدا يتصفحه ليعثر على صفحة فارغة لكى يستخرج تصريح الدفن, لا يبالى بأن كل ورقة تمسكها يده هي نهاية عمر انسان كان يعيش هنا ولكنه فى تعداد الموتى الان, كلِ منهم له قصة لها أهمية بمقدار قصة كل أحَدٌ ممن يقرأ هذه السطور عند نفسه .. النساء لم يفارقها البكاء بينما رجالنا كعادتهم ثابتين وأقوياء بالرغم من أن الحزن يقتلهم, بإستثناء أَبيه, جده, وشخص آخَرُ لم أراه ضعيفاً من قبل, ذاك الذى علمنى كيف أصير قوياً, كان بكاء جميعهم مُوجِع للقلب .. ومع أن هذا الطفل صار ملاكَ لنا فى السماء, يبقى الفراق كما قالوا عنه بإنه كالعين الجارية التي بعد ما اخضرّ محيطها نضبت .. فى طريقنا للمقابر, نظرت حولى وكأن شيئاُ لم يكُن, الفلاحون فى حقولهم, الرجال يجلسون فى المقاهى, أصدقاء يتسامرون, أطفال يلعبون, أُناس يبيعون وآخَرُون يبتاعون .. لم يدرك بعضهم أن موت أحَدٌهم هو إنذاراً يُخبرهم بأنه حتماً سترحل من هذه الحياة يوماً ما .. بيننا الكثير من الموتى يتحرّكون, يتحدثون, يأكلون، يشربون، يضحكون، لكنهم موتى يمارسون الحياة بلا حياة .. دائما ما أنظر لأطفال عائلتى بأن هؤلاء سيحملون صندوقى للدفن وكذلك صناديق جيلنا, لا أكذب فى إنى أعاملهم بمحبة كبيرة, حتى عندما يأتى اليوم ليحملوننى لا يشعرون بأن الصندوق ثقيل على أكتافهم, ولكن الموت عجيب فها نحن ندفن أحَدٌ صغارهم .. على أى حال, انتهى المطاف بنا الى القبر .. صندوق صغير لا يحتاج إلا لشخص واحد لحمله, كان بين ذراعي حتى باب القبر, هناك أعطيته لعمى الأكبر الذى دخل القبر ليضع الصندوق فى مكانه .. أمام القبر وقف الجميع, بينما عند باب القبر جلست وحدى أنتظر خروج من دخلوا القبر يدفنوه .. جلستُ القرفصاء, يداى تمسك بمقدمة الرأس تلك التى تنحنى لأسفل بعض الشىء, عيناى لا تُخرج دموع وكأنها أقسمت بإنها لا تُدمع إلا عند الكتابة .. عندما كنت صغيراً علمنى أبى بإنه لا يحق لأى أحَدٌ أن يرى دمعتك, أنت أكبر أبنائى فلا تُدمع مهما كان, حتى وإن أخبروك يوماً برحيلى .. هو يريدنى قوياً, صدقونى لا أعلم هل هذا صواب ام خَطَّأَ ! .. السكينة تعم المكان والقبر متسع, كانوا يدفنوه فى جانب لم يمكننى من رؤيتهم .. عيناى سقطت على بعض الصناديق التى بالداخل, تذكرت كل أفراد عائلتى الذين اختطفهم الموت, وقتها الذهن شرد بعيداً, استرجعتُ نصائحهم التى لا تُنسى, ذكرياتي الجميلة واللحظات الحلوة التي جمعتنى معهم، كم فرحنا، وكم بكينا، وكم واجهتنا صعوبات اجتزناها سوياً .. ربما أجسادهم رحلت عنا ولكن روحهم لم ترحل بعد .. جلوسى عند باب القبر جعلنى أدرك بأن الحياة ليست إلا أُكْذُوبَةٌ كبيرة نعيشها .. تم الدفن بعد الظهيرة, فالشمس لا تزال تسطع ونورها بداخل القبر عبر بابه, تتأمل جدران القبر من الداخل وتنظر لسقفه, يشرد ذهنك فى أن بعد دقائق سيُغلق الباب ويعم الظلام بالداخل, الصناديق لا تشعر بشىء والموتى فى عالم آخَرُ, وتراب القبر مختلف له رائحة غريبة .. قد تكون فترة قصيرة, ولكن شرد فيها عقلى نحو أمور كثيرة لم يُفصح عنها بعد .. تذكرت أُناس غرتهم الحياة, أحَدٌهم يخون ويظلم وآخَرُ يقتل وهناك من يسرق وينهب وغيرهم ممن يفعلون أشياء كثيرة لا تُرضى الله, وتتعجب من أنهم تناسوا أن لعمرهم ميعاد سيقف عنده, هو الموت, وعند النهاية يقولون ياليت لنا من عمل .. طوبى لكلِ من يعلم أن الموت ينتظره فى أى وقت, هؤلاء الذين يعرفون بإنهم ضيوف ههنا وأن الحياة ما هى إلا بُخَارٌ يظهر قليلاً ثم يضمحل, يفعلون الخير كى يقدموه لله هناك .. وسط كل هذا, أحسست بعمى الأكبر ينادينى قائلاّ " ما بالك لا تسمعنى عندما أناديك, أعطنى يدك لأخرج من القبر ", جذبته للخارج, فسألنى ثانياً " أين كان عقلك وماذا تذكرت؟ ", أَجَبْتُهُ " عند باب القبر, لا تتذكر غير الله .. " ..