الأديب الكبير سليمان فياض (مواليد السنبلاوين – الدقهلية – 7 فبراير1927) مُـتعدد المواهب ، فأصدر عدة مجموعات قصصية ، منها (وفاة عامل مطبعة) و (عطشان يا صبايا) و(وبعدنا الطوفان) وأصدر عدة روايات، أشهرها ( أصوات ) ورواية (لا أحد) ورواية (القرين) وكتب سيرته الذاتية البديعة بعنوان (أيام مجاور) عن تجربته مع الأزهر. وكتابه الشيق (النميمة : نبلاء وأوباش) الذى تناول فيه بعض رموز الثقافة المصرية ، وأعطى لكل من تناوله حقه إذا كان من (النبلاء) وانتقد كل من يستحق النقد (إذا كان من الأوباش) بأسلوب مهذب ودون أن يذكر الاسم واكتفى بالحروف الأولى . هذا بخلاف اسهاماته فى مجالات مـُتعددة ومتـُـنوعة.
ورغم هذا التنوع فى المجال الثقافى، فقد طغتْ شهرة الإبداع الروائى والقصصى على جانب آخر من إبداع سليمان فياض، أى دراساته حول التاريخ العربى والإسلامى ، ومن بين هذه الدراسات كتابه (الوجه الآخر للخلافة الإسلامية) الصادرعن دار ميرت للنشرعام 99 . فى المدخل رصد ظاهرة الخلافات التى ظهرتْ عقب وفاة الرسول ، حول من يكون الخليفة ؟ واستشهد بما كتبه الشيخ الجليل محمد أبو زهرة إلى أنّ السبب يرجع إلى ((العصبية العربية)) وانتهتْ الأزمة بوقوف عمر بن الخطاب بجانب أبى بكر الذى اختار عمر ليكون خليفته. أما عمر فقد رشح – عقب اغتياله – ستة ليكون الخليفة من بينهم : وسُـئل عمر: ماذا لو شقّ أحد الستة عصا الطاعة فى مبايعة الخليفة المختار؟ فقال : أقتلوه . أما أسباب الثورة ضد عثمان فكثيرة ، منها محاباته لعبدالله بن سعد بن أبى سرح حين ولاّه ولاية مصر، رغم أنّ الرسول أباح دمه لارتداده. ومنح عثمان إقطاعيات كاملة لبعض بطانته . وعندما أعاد الإمام على بن أبى طالب تلك العطاءات إلى بيت المال ، ثار الولاة وعلى رأسهم معاوية بن أبى سفيان ، فنشبتْ الحرب بين القبائل العربية المسلمة : الهاشميون وأنصارهم من جهة ، والأمويون وأنصارهم من جهة ، حرب بين خليفة تمتْ له البيعة (الإمام على) ووالٍ متمرد ومعزول (معاوية) فكانت موقعة الجمل ثم موقعة صفين التى جرى فيها التحكيم ، وخدع فيها عمرو بن العاص (ممثل معاوية فى هذا التحكيم) أبا موسى الأشعرى (ممثل على) وترتب على هذا التحكيم أنْ انصرف بعض أنصارعلى ولجأوا إلى معسكرمعاوية. وثار البعض من الخوارج ضد على واتهموه فى دينه. وعندما أرسل الإمام على محمد بن أبى بكر واليًا على مصر أساء إلى الأمويين ، فهدم دورهم ونهب أموالهم وآذى أولادهم ، فدار قتال بين محمد بن أبى بكر ومعاوية بن حديج الذى أسر محمد بن أبى بكر وقتله ووضع جثمانه فى جيفة حمار وأحرقها بالنار.
شهدتْ دولة بنى أمية صراعًا عنيفــًا بين العلويين ، الذين قتل بنو أمية منهم المئات ومن أتباعهم الشيعة عشرات الألوف. وفى الدولة العباسية أحضروا لأبى العباس السفاح رأس مروان بن محمد، فسجد السفاح وأطال سجوده ثم قال ((الحمد لله الذى أظفرنى بك وأظهرنى عليك)) أما الصورة الأبشع حين كان العباس جالسًا يأكل أمام سبعين أسيرًا أمويًا ، فأمر بضربهم بالسياط قبل قطع رقابهم ثم أمر بفرش السجاجيد فوق القتلى الذين يحتضرون وفوقها موائد الطعام ، فجلس السفاح ومن معه من بنى العباس يأكلون ((وموسيقاهم أنين المحتضرين)) وامتد الانتقام ضد الأمويين طوال مائة عام ((فالعداء كان شديدًا ودفينًا بين بنى أمية وبنى هاشم جاهلية وإسلامًا . . ومثلما كان خلفاء بنى أمية يلعنون عليًا والعلويين من فوق المنابر، راح العباسيون يلعنون معاوية والأمويين على المنابر عملا بالسنة العربية المتبعة عبر التاريخ))
واذا كان معاوية بن أبى سفيان أخذ البيعة لابنه يزيد بالسيف وجعل الخلافة ملكــًا وراثيًا ، وقال ((أنا أول الملوك)) فإنّ الخليفة أبى جعفر المنصور قال ((أنا سلطان الله فى أرضه)) وكانت الكارثة عندما صار الناس يعتقدون ((أنّ الخليفة العباسى هو حقــًا ظل الله على الأرض)) ولم يكن حظ الشعوب البائس فى الخليفة الطاغية فقط ، وإنما- أيضًا- فى الفِرق الإسلامية المتعددة ، ما بين سنية وشيعية. وعن الأخيرة كتب المؤلف أنّ عددها وصل إلى أكثر من 72 فرقة يُكفر بعضها بعضًا. وأنّ الفرقة الوحيدة المعتدلة هى الزيدية. أما الخوارج الذين قاتلوا عليًا ، فقد امتد صراعهم ضد مخالفيهم حوالى 300 سنة وكان صراعًا داميًا سيق فيه للذبح فقراء ، متعصبين أو غير متعصبين . ولأنّ أ. سليمان فياض كان يكتب بعين الحاضر، لذا أضاف أنّ شعارهم ((لا حكم إلاّ لله)) وهو الشعار ((الذى تـُردده الجماعات الإسلامية فى زماننا. كما أنّ الماوردى تجاهل تاريخ القهر للخلافة الإسلامية وأكد أنّ مركز الخليفة مركز انتخابى )) وفى فصل ممتع بعنوان (مصارع خلفاء القهر ووزرائهم) نقل المؤلف عن المؤرخين العرب حالات الاغتيالات المتكررة والبشعة ، مثل مقتل مروان بن الحكم على يد زوجته من بين 4 من خلفاء بنى أمية ، 14 من العباسيين من بينهم الخليفة الهادى الذى قتلته أمه بالسم . وفى هذا الفصل الشيق بيان بأسماء الخلفاء الذين تـُذيل أسماؤهم بلفظ ((الله)) مثل المتوكل والمنتصر إلخ. وفى الفصل المعنون (الحالة الاقتصادية والاجتماعية فى خلافات القهر) بيان بحجم الأموال المنهوبة من الشعوب المغزوة. فالزبير بن العوام كانت له قصور بالبصرة والكوفة والفسطاط والاسكندرية وبلغتْ أمواله حين وفاته 50 ألف دينار ذهبى وألف فرس وألف عبد وألف عبدة وله مزارع فى العراق ومصر والحجاز. وطلحة بن عبدالله – أحد العشرة المبشرين بالجنة – كانت له قصور بالكوفة والمدينة وعلى قمم جبل بمدينة الطائف ومزارع من الكروم الطائفى ومزارع بالعراق تدر عليه فى كل يوم ألف دينارذهبى . وبلغتْ تركة معاوية بن أبى سفيان عند وفاته رقمًا مذهلا هو رقم بيت المال ، فلم يكن ثمة فرق بين بيت المال العام ومال الخليفة الخاص . أما عمرو بن العاص فإنّ معاوية ترك له أرض مصر (لقمة خاصة) لمدة خمس سنوات مكافأة له لاسترداده مصر من التبعية لعلى ، فأخذ عمرو خراجها وجزيتها وعشورها لنفسه ولا يعطى لبيت المال فى دمشق من هذا العائد (النهب) أى شىء . كذلك ضاعف معاوية الجزية على المصريين بحجة أنّ فتحها (= غزوها) كان عنوة لا صلحًا ولم يكتف بذلك وإنما فرض الجزية على من أسلم ، أى أنّ دخول المصريين فى الإسلام لم يعفهم من أداء الجزية. وبالتالى ((كان هناك مسلمون عرب لا يدفعون جزية. ومسلمون غيرعرب (من الدرجة الثانية فى المواطنة) يدفعون جزية.
ورصد أ. سليمان فياض ظاهرة تتجاهلها الثقافة السائدة ، وهى أنه إذا كان القرآن نصّ على الجزية ، إلاّ أنّ مقدارها كان متروكــًا للخلفاء ، فبعد أنْ كانت دينارًا فى عهد عمر أصبحت ديناريْن فى عهد عثمان وثلاثة دنانير فى عهد معاوية وصارتْ أربعة دنانير فى عهد عبد الملك ((هى كل ما كان يمكن للفقير أنْ يدخره فى عام)) كما أنّ نظام الجزية على رؤوس البشر لم يُـفرق بين الفقراء والأغنياء. ونتيجة هذا النهب من عرق الفلاحين أقام الخليفة المهدى عند زواج ابنه هارون وليمة لم يسبقه إليها أحد. وزُيّنتْ العروس بكثير من الحلى حتى أنها لم تقدرعلى المشى من كثرة الجواهر. وأمهر المأمون (بوران) يوم زواجها مائة ألف دينار ذهبى و50 مليون درهم فضى . وأمر المأمون لوالد بوران بعشرة ملايين درهم ومنحه خراج إقليم (قم) وإقليم فارس والأهوار لمدة سنة كأن هذه الأقاليم (عزب خاصة) مملوكة للخليفة المأمون وليست ملكــًا لشعب تعرض للغزو. ولأنّ أ. سليمان يتميز بالدقة فإنه اعتمد فى رصده لثروات الخلفاء على أربعة مصادر أصلية هى قوائم الجهشيارى وابن خلدون وقدامة بن جعفر وابن خرداذبة. وبلغت الاستهانة بالشعوب ونهب أموالها لدرجة أنّ هارون الرشيد قال يخاطب السحابة ((أمطرى حيث شئت فسوف يأتينى خراجك))
وخصص فصلا عن الثورات الشعبية ضد الحكام العرب ، وأشهرها ثورة البشموريين التى قام بها الفلاحون المصريون واستمرتْ عدة سنوات ، وفشل قائد جيش المأمون فى قمعها ، فحضر المأمون بنفسه ومعه عدة آلاف من الجنود فقتل كل الثوار والمحاربين ومن بقى على قيد الحياة من النساء والأطفال والشيوخ أخذهم إلى بغداد سيرًا على الأقدام كأسرى حرب . كما أظهر المؤلف مأساة الذين تعرّضوا للجلد والتعذيب والسجن أمثال الأئمة أبى حنيفة ومالكــًا وابن حنبل . وفى الملحق نشر النص الكامل لرسالة الصحابة لابن المقفع ، الذى لقى حتفه بسببها . ووصلت بشاعة اغتياله لدرجة تقطيع أعضاء جسده وهو حى ينظر إليها ثم إلقائها أمام عينيه فى النار.
هذا هو الوجه الآخر للخلافة الإسلامية التى أكد أ. سليمان فياض من خلال المصادر الأصلية التى اعتمد عليها أنها ((خلافة قهر قرشية.. وأنّ الخلافة العربية فى جوهرها خلافة واحدة. أموية كانت أو عباسية ، خلافة قهر واستبداد ووراثة وتملك)) واذا كانت الخلافة الإسلامية تسبّبتْ فى قتل آلاف الأبرياء ونهب أموال الشعوب ، فإنّ العرب أنفسهم ذاقوا ويلات هذا النظام المُستبد ، والسبب (العصبية العربية) التى تسبّبتْ فى أنْ يقتل المسلمون العرب مسلمين عربًا مثلهم بل ويتم تدمير الحرميْن المدنى والمكى بالأحجار والنيران وكرات النفط الملتهبة تقذفها بالمجانيق وإباحة مكة والمدينة للجنود الشاميين. وفى المقدمة كتب أ. سليمان أنّ الفقهاء الذين تباكوا على ضياع الخلافة العثمانية تجاهلوا كل تاريخ خلافات القهر التى قمعتْ بالغزو كل الشعوب باسم الدين وفرضت الجزية حتى على من أسلم فى بعض فترات تاريخ الخلافة الإسلامية.