صمّم الأرمن (الشعب والحكومة) على إحياء ذكرى المذابح البشعة التى تعرّض لها الشعب الأرمنى على يد حكام تركيا الذين توارثوا منظومة الخلافة الإسلامية وأطلقوا على خلافتهم (الخلافة العثمانية) وأعتقد أنّ إحياء تلك الذكرى – رغم ما فيها من مرارة نفسية – دليل ساطع على أنّ الشعب الأرمنى (وحكومته) يُـقــدّم تراجيديا إنسانية (مكتوبة بدماء الضحايا) وليس بريشة الكتابة. ومضمون تلك التراجيديا رسالة مفادها : الشعوب الحرة – بقدر ما تعرّضتْ للقمع والمذابح بهف الإبادة – بقدر ما هى قادرة على الصمود والتمسك بالحياة.
ينتمى الشعب الأرمنى إلى العرق الآرى . وتقع أراضيه فى الأجزاء الوسطى والشرقية من آسيا الصغرى (تركيا حاليًا) ويعود تاريخهم إلى القرن الثالث قبل الميلاد (وفق الدراسات اللغوية والأثرية الحديثة) ويرى بعض المؤرخين أنّ الأرمن أول شعب اعتنق الديانة المسيحية. وفى عام 406 أتمّ الراهب (ميسروب ماشدوتس) الأبجدية الأرمنية. وبذلك تمّتْ ترجمة الإنجيل إلى اللغة الأرمنية. ونشطتْ حركة الترجمة من اللغات الأوروبية إلى الأرمنية.
بداية الكوارث :
فى عام 1514 استولى العثمانيون بقيادة السلطان سليم الأول على أرمينيا بعد إلحاق الهزيمة بالفرس الصفويين . ومنذ ذلك التاريخ بدأ مسلسل بطش الحكام الأتراك ضد الأرمن (كما فعل الفرس الذين قتلوا 30 ألف إنسان أرمنى).
ولأنّ الشعب الأرمنى (مؤمن) بالحياة ، لذلك كان تسامحه مع البطش التركى، إذْ تذكر الموسوعات أنّ الأرمن هم أول من أسّسوا الصحافة فى تركيا . وكان (دريان كليكيان) الصحفى والبروفسور الأرمنى فى جامعة استانبول ، هو مؤسس الصحافة فى تركيا . كما ساهم الأرمن فى تحديث تركيا ، خاصة فى مجالات الأدب والفن والعمارة والهندسة ، وصمّموا العديد من المبانى فى الدولة العثمانية ، بما فى ذلك الحمامات العامة والقصور و(المساجد) والكنائس ومعظمها كانت فى الأستانة.
وتمكــّن الأرمن من تنظيم أنفسهم فى أحزاب سياسية وأنشأوا النوادى الثقافية والجمعيات الخيرية. ورغم كل ذلك الحراك الاجتماعى (الذى استفاد منه الأحرار من الشعب التركى) فإنّ سلطة البطش التركية دأبتْ على اضطهاد الأرمن ، مثل فرض ضرائب باهظة وغير قاونية – كما حدث مع الأكراد – وكان الحكام الأتراك يُـجبرون الأرمن على اعتناق الإسلام . وفى حالة الرفض يرتفع سقف الاضطهاد من اختطاف من الشوارع وسرقة ممتلكاتهم . وكانت الحكومة التركية تعامل الأرمنى على أنه (مواطن درجة ثانية) وتـُطلق على الأرمن بالتركية Gavoursأى الكفار أو عديمى الإيمان . وكانت شهادة الأرمن فى المحاكم مرفوضة. وحرمانهم من ركوب الخيل. ولا يحق للأرمنى أنْ تكون شرفتة / بلكونته مُـطلة على بيت التركى. والتضييق على ممارسة شعائر ديانتهم وحرمان الكنائس من دق الأجراس. وكل من يُخالف ذلك يكون مصيره عقوبات بين الغرامة المالية والإعدام.
ثم بلغتْ قمة المأساة عام 1915 التى راح فيها (على أقل تقدير) مليون ونصف إنسان أرمنى (مع ملاحظة وجود مذابح سابقة على هذا التاريخ) وفى يوم 24 إبريل 1915تم اعتقال أكثر من 250 ألف من أعيان الأرمن فى استانبول . وقام الجيش التركى بطرد الباقى من منازلهم وأجبروهم على السير مئات الأميال إلى الصحراء، مع حرمانهم من الماء والطعام . وفى المذابح الجماعية كان القتل لا يُـفرّق بين العمر أو الجنس . كما تم الاعتداء الجنسى واغتصاب النساء والفتيات . وكان القتل ممنهجًا خلال وبعد الحرب العالمية الأولى بواسطة المجازر والترحيل القسرى.
ورغم كل ذلك حافظ الشعب الأرمنى على تقاليده وعلى ثقافته القومية. وبرز عدد كبير من الأرمن فى مجال الموسيقى ذات التراث الأرمنى ، حيث تمّ استخدام آلات موسقية أرمنية. وحافظ الشعب الأرمنى على الأغانى والرقصات الشعبية. ويعتبر (ريتشارد هاجوبيان) من أشهر الموسيقيين الأرمن.
الأرمن المصريون :
شهد عصر محمد على (1805- 1848) توافد الأعداد الكبيرة من الأرمن على مصر. واستعان بهم فى وظائف الحكومة والاستفادة من خبراتهم الفنية فى شتى المجالات. ثمّ حدثتْ الكارثة بعد يوليو1952، وخاصة بعد قرارات التأميم التى لم تـُفرّق بين الصناعات الكبيرة والمشروعات الصغيرة ، فهاجر عدد كبير من الأرمن إلى أوروبا. وتوجد حاليًا جالية أرمنية تبلغ حوالى ثمانية آلاف معظمهم فى القاهرة والإسكندرية ، بينما كان عددهم قبل يوليو52 أكثر من 60 ألفـًا . ومن بين مشاهير الأرمن نوبار باشا (1825- 99) الذى يعتبر أول من شغل منصب رئيس وزراء مصر. وعمل مترجمًا لمحمد على والخديو إسماعيل . وأدار مرفق السكك الحديدية. وإليه يرجع الفضل فى إنشاء الخط الحديدى الإسكندرية – السويس . واستطاع أنْ ينتزع من السلطة العثمانية فرمانات 1866، 67، 73 والتى بمقتضاها تمّ تعديل نظام وراثة العرش . كما استطاع أنْ يُـقنع العثمانيين بمنح الخديو إسماعيل حق عقد الاتفاقات مع الدول الأجنبية ، وزيادة قوات الجيش المصرى والأسطول المصرى.
وكتب عنه كثيرون أنه أول ((من دعا إلى مصر للمصريين)) وأنه أحد الذين خدموا الأمة المصرية. وأقوى شخصية قادتْ سفينة مصر وسط العواصف . وذكر فى مذكراته ((كانت مصر مُـلزمة بأنْ تدفع ثلاثمائة ألف جنيه استرلينى سنويًـا للسلطان العثمانى ، تـُرسلها على أنها (جزية) ونظرًا لجهود نوبار باشا لصالح مصر، لذلك تمّ عمل تمثال من البرونز، تمّ وضعه فى جنينة عامة بالإسكندرية عام 1903، ولكن ضباط يوليو1952 (لأنهم يكرهون كل ما هو فى صالح مصر) قرّروا رفع التمثال من مكانه عام 1966، وتمّ دفن التمثال فى فناء متحف غير مشهور. ونشرتْ صحيفة الجمهورية (صحيفة ضباط يوليو) الخبر يوم 29 نوفمبر 1966 وقال مُحرر الخبر ((وهكذا أسدل الستار على مؤسس المحاكم المختلطة فى مصر)) (لمن يود معرفة المزيد عن نوبار باشا الرجوع لكتاب أ. نبيل زكى (نوبار فى مصر- هيئة قصور الثقافة – عام 2006، أو طبعة كتاب اليوم عام 91)
ومن بين المشاهير الأرمن فنان الكاريكاتير (صاروخان) والفنانات فيروز، نيللى، لبلبة وأنوشكا. وساهم الأرمن فى تعليم شعبنا المصرى بعض الحِرف مثل المشغولات الذهبية وتصليح الساعات والتصوير الفوتوغرافى وفن تقنيات صناعة السينما والخراطة.
وإذا كانت الثقافة المصرية السائدة بعد يوليو52 لم تهتم بتاريخ الشعب الأرمنى، فإنّ المثقفين المصريين قبل ذلك التاريخ الكارثى، أولوا اهتمامًا كبيرًا بذلك الشعب العظيم ، وما تعرّض له على يد سلطة الخلافة العثمانية الغاشمة ، من ذلك (على سبيل المثال فقط) ما ورد فى مجلة الفجر الجديد – عدد أول أكتوبر1945 عن تاريخ الشعب الأرمنى وموقعه الجغرافى ، حيث ظلــّتْ الهضبة الأرمنية على توالى العصور هى طريق التجارة والغزوات ، ولذلك اضطر الشعب الأرمنى منذ البداية للدفاع عن استقلاله دفاعًا مجيدًا ، أريقتْ فيه دماء كثيرين من هذا الشعب العظيم . وفى أرمنيا اصطدمتْ جيوش الفرس والعرب والمغول ، وتلتها جيوش الترك والروس . فقدتْ أرمنيا استقلالها عام 1375 ولكن فى عام 1878 انتعش أمل الأرمن فى أنّ حلمهم بالاستقلال كاد يتحقق ، حيث أنّ البلقان كان فى ذاك الوقت يهز نير الاستعمار التركى. وقد انتهتْ الحرب التركية/ الروسية بأنْ أجبرتْ روسيا تركيا أنْ تضمن للشعب الأرمنى حكمًا ذاتيًا محليًا واسعًا (أى منحه سلطات حقيقية) ولكن الاستعمار الأوروبى – والبريطانى خاصة – لم يُعحبه هذا المسعى الروسى ، فتدخلتْ الدول الأوروبية لوقف مشروع الحكم الذاتى ، ولكن مع مزيد من الضغط الروسى والإرادة الشعبية الأرمنية ، قبلتْ تركيا بأنْ تتعهد بالقيام ببعض الاصلاحات لصالح الأرمن ، ولكنها لم تـُـقـدّم أى ضمان عملى لتحقيق ذلك. وكانت النتيجة أنّ تركيا لم تلتزم بتعهداتها . بل إنّ السلطان عبد الحميد أصرّ على تنفيذ سياسة ((محو الشعب الأرمنى من الوجود)) حيث استمرتْ أعمال القتل والنفى لمدة 40 سنة وبلغتْ ذروتها عام 1915، ففى هذا العام كانت تركيا قد حالفتْ الاستعمار الألمانى الذى كان يعمل على إنشاء خط سكة حديد (برلين- بغداد) وكانت أرمنيا فى طريق هذه السكة الحديدية ، فاتفق الحكام الألمان مع الأتراك على نزع الأقاليم الأرمنية من سكانها نزعًا كاملا. ثم بدأتْ محاولة القضاء على الشعب الأرمنى وإبادته يوم 24 إبريل 1915 بطرد 2 مليون إنسان أرمنى من مساكنهم ونقلهم إلى الصحراء . وكانت العصابات التركية تـُهاجم باستمرار الطريق فتسبّب ذلك فى قتل مليون ونصف من الرجال والنساء والأطفال فى مأساة ليس لها نظير إلاّ فى المعتقلات النازية ، كما حدث فيما بعد .
وهكذا يتبيّن أنّ الحركة الثقافية فى مصر قبل يوليو52 الكارثى ، كانت تهتم بالشعب الأرمنى ، ولم يكن لدى مثقفى تلك الفترة ، أى تخوف من إرهاب الإخوان المسلمين الذين كانوا يدعون لعودة الخلافة الإسلامية، بعد أنْ ألغاها مصطفى كمال أتاتورك عام 1924.
إنّ درس إحياء ذكرى مرور مائة عام على المذبحة التى ارتكبها حكام تركيا عام 1915، دليل ساطع على أنّ حكومة أرمنيا والشعب الأرمنى من بين الشعوب التى تهتم بما حدث فى الماضى (رغم آلام التذكر) لتكون رسالتهم إلى كل الشعوب هى أنّ التمسك بالشخصية القومية وبمجمل الثقافة القومية ، هو الذى صنع أرمنيا الحديثة ، التى استطاعتْ أنْ تـُوجـّه صفعة قوية ومُـدوية على وجه السلطان الذى يحكم تركيا حاليًا فى عام 2015، والذى يسعى لعودة (أمجاد) الخلافة العثمانية ، سليلة الخلافة الإسلامية ، وكان من بين (أعظم انجازاتها) إراقة دماء الشعوب المُسالمة المُـتحضرة.