ذات شتاء .. هناك ف الركن البعيد الهادي عن السيده أنغام مطربة الرومانسيات وفِي ذاك المقعد الهزاز ، جلست مسترخياً في كامل الاستحكامات الشتويه ، بدئاً من غطاء الرأس حتي الشراب الصوفي الطويل مع قفاز اليد إمعاناً في تأمين الأطراف كاملة. بهدؤ تسللت يدي لتزيح الستار عن النافذة كمن يزيح الستار عن خشبة المسرح القومي لتبدأ احداث مسرحية بيجماليون للأديب الأيرلندي چورچ برنارد شو..فور انفراجة الستار عن المشهد بدت امامي بانوراما ساحره. تابلوه رائع تعجز عن محاكاته ريشة بيكاسو او فان جوخ ولاألوان دافنشى بكل تنوعها. ها هي سماء رمادية ملبده بالغيوم، تدعوك الي اكتآب حاد تتوحد فيه مع ذاتك، شاعراً بالاحباط المر، أشجار وارفه تهزها الريح فتبدو كطير جريح يرقص احتضاراً، أوراق الشجر التي تشبثت بالبقاء في فروعها يغسلها المطر المنهمر بلا انقطاع ولا ملل، بصماته علي سطح الأوراق قطرات من الماء وحبات من الجليد، وفي طريقه الي الارض ينقر المطر زجاج النافذة كعازف الايقاع الاشهر كتكوت الامير. ليضيف بعداً موسيقياً متلازماً مع حنجرة علي الحجار وهو يشدو بصوته الشجي . لما الشتا يـــدق البيبان ، لما المطر يغسل شوارعنا القـديمه والحـــــــارات...في هذا الجو المشحون رومانسيه شتويه. ارتشاف المشروب الساخن أمر واجب بل وحيوي .. سرحت بخاطري للحظات وسرعان ما أفقت علي اضواء تبرق متلاحقة، تتوالد من بعضها توالداً ذاتياً في كبد السماء، مما ذاد من جرعة الإثارة ان رعوداً قد رافقت ذاك البرق تزوم في عصبيه شديده وغضب مخيف كأن حرباً كونيه انطلق سعيرها، احساس فاق كل ما تتركه قصص أجاثا كريستي وافلام الإثارة والرعب لالفريد هيتشكوك وبدي فرانكشتين يكشر عن انيابه. تحت هذا الضغط النفسي تسابق الي ذهني اسأله محيره، لماذا تغضب الطبيعه وتزأر بهذا الشكل العصبي في فصل الشتاء. !!! ماذا لو احتاج الانسان او اضطر تحت اي ظروف ان ينتقل من مكان الي مكان آخر براً او جواً او بحراً، كيف يكون الأمر لو كان التحرك علي ارض زلقه يكسوها الجليد، وفِي رؤيه متعذره وقد تكون معدومه، فِي مثل جو من الارهاب يفرضه البرق والرعد والريح؟ ثم كيف يكون الامر في حالة الملاحه الجويه، كيف لطائرة ان تحلق في هذا الجو الغاضب، كيف لها ان تحافظ علي أتزانها وسط رياح عاصفة تجعلها كريشه في مهب الريح؟ ما بالنا لو رحلة السفر كانت من خلال اليم ! كيف لسفينه ان تشق عباب البحار تلطمها الامواج، كيف لمسافر ذاده الخيال والعشق والسحر والجمال في هذا الشتاء الرومانسي ان يواجه الغضب العارم الذي يصل الي حد الجنون القادر علي ابتلاع ما يطفو علي سطحه ليستقر في قاعه. في كل الظروف السفر في هذا الفصل الرومانسي مغامره مؤلمه. افقت من هذا الكابوس وانا أحرك رأسي كي انفض هذه الصور الثلاث الكئيبه عن ذهني متصوراً رحلات سفر مؤلمه بطعم الخطر، كمن ينفض سيول المطر عن رأسه وهو يسير بلا معطف وبلا مظله مطر. اخذت نفساً عميقاً كي اخرج من هذا الكابوس الشاعري، وما ان انتهيت من ذاك الشهيق العميق حتي خرجت زفرة طويله وقفزت الي رأسي موجات تلو موجات من الاسئله المحيره، المرضي اللذين يعانوناً آلام المرض كم تتضاعف تلك الآلام في ذاك البرد اللعين، المشردين واللذين بلا مأوي كم تقسو عليهم الحياه في هذا المناخ القاسي؟ التعساء اللذين أجبرتهم ظروف المعيشه علي العمل في مثل هذا الجو وتحت تلك الظروف المناخية كي يلبوا متطلباتهم واحتياجات اسرهم؟ كم يعانون من هذه الظروف؟ هل يمكن ان يكون هناك اي فرصة تواصل اجتماعي حي بعيداًعن الــ social media الفضائيه؟ في مثل هذا الجو الكئيب؟ ماذا عن تبادل الزيارات بين الأهل والاصدقاء او واجبات التعازي و مشاركات التهاني؟. ثم ماذا عن وسائل الترفيه والفرح واللهو البريء؟ الشواطيء الحدائق والمتنزهات والملاهي كلها يهجرها الزوار و الرواد الي ان تشرق الشمس بعيداً عن فصل الشتاء ورومانسيته الرتيبه الممله، هل يمكن للطيور ان تحلق او تغرد في مثل هذا الشتاء القارس!! حتي زقزقة العصافير يحرمنا منها هذا الفصل التعس الغير لذيذ .. اتسائل متي تدب الحياة في أطراف الدني؟ ... بينما كنت مغيب شارد الفكر افقت علي يد تلمس كتفي برفق، التفت لأجد اليد الاخري تقدم لي ذاك الذهبي الرائع المبهر، رائحة حنونة تتسرب الي انفي تمنحني إحساساً غريباً بالدفء، من سطحه تتصاعد أبخرة في أشكالاً سريالية بديعة كراقصة باليه ماهرة، او راقصه غجريه علي أنغام الفلامنجو، تأملتها في عشق وشوق في رقة ورومانسية بالغة بدأت في الغوص الي ذاك الذهبي الرائع يالها من لحظة عبقريه، رغم هذا السقيع وتلك البانوراما التي اراقبها من خلف زجاج النافذة اشاهد البرق واسمع الرعد واري أوراق الشجر وحبات المطر وكرات الثلج علي الطريق كل هذا في الركن البعيد الهاديء وذاك الصوت الشجي لعلي الحجار يشدو: لما الشتا يدق البيبان .. عشت أجمل وأروع اللحظات الرومانسيه مع حواس الشم والنظر والتذوق من ذاك المخلوق الذهبي. لم أفق من ذاك الجو الرومانسي الحالم إلا علي صوت الملعقة المعدنية وهي تصطدم بقاع الطبق الذي أجهزت عليه تماماً في نهم رومانسي محلقاً في السماء بعد أن عشت أجمل وأرق لحظات الرومانسية مع (طبق العدس.