د. نبيل سليمان

المسيح بين المذود والصليب

بقلم د. نبيل سليمان - [email protected]

يَوْما ميلاد المسيح وصلبه هما من أهم أحداث البشرية، ومن أروع أعياد كنيستنا. المتأمل فى كل من المذود والصليب لا يستطيع إلا أن يتعجب من ارتباطهما ببعضهما، وإلى حدٍ ما تشابههما!

فكل منهما يوم عيد:

فى الميلاد تعيّد البشرية بوصول إلهها الذى ظهر فى الجسد (1تى16:3). وفى الصليب يفرح أولاد آدم أنه نزل إلى الجحيم لكى يخلّص الذين قُبِضَ عليهم فى الموت. بدون ميلاده لم يمكن صلبه، وبدون موته على الصليب لم تمكن قيامته. بميلاده يكون الكلمة قد صار جسداً (يو14:1) وبصلبه يَشتّم الآب جسده كذبيحة الذبائح، بميلاده يصير المولود بكراً بين إخوة كثيرين، وبصلبه يُعتق الإخوة من أسر إبليس.

فى ولادته كانت أمه العذراء ترعاه وتعتنى به كرضيع، تسمع مناغاته فيتهلّل فؤادها، وبكاءه فتهرع لخدمته، أما عند الصليب فقد فاه السيد بكلمات الرعاية لوالدته لكى يضمن لها احتياجاتها- حتى بعد أن يُسلّم الروح، فخاطب يوحنا الحبيب: «هوذا أمك». هى حملته لترضعه من ثدييها، وهو حمل خطاياها بل خطايا البشرية جمعاء على خشبة العار. ولا نستطيع إلاّ أن نتعجب كيف عَبَرت العذراء- وهى حامل فى الشهر التاسع- هذه الأرض الوعرة من الناصرة إلى بيت لحم، رحلة امتدت إلى 90ميلاً وربما استغرقت أربعة أيام؟ وكما جازت هى مخاض الولادة لوحدها، شرب إبنها – فيما بعد- كأس الصليب وحده! وكما قمّطته وهى منهوكة القوى من عناء رحلتها، حمل هو صليبه وظهره مثخّن بجراح السياط! لم يكن هناك فى الدنيا قاطبةً من يستقبل جسد المسيح الغض إلا قش فى مذود للبهائم!! وبهذا يتأهل هذا الجسد منذ اللحظة الأولى لدخوله العالم، لكى يسند ظهره على خشبة الصليب كآخر مكان له على الأرض وفى آخر لحظة له فى العالم! وفيما بين اللحظتين لم يكن له أين يسند رأسه! فقد وُلد السيد، وعاش، ومات وهو فقير! استقبلته البشرية بكومة من تبن خشن فى مذود من طين، وكأن المسيح قد ولد مصلوباً من الطبيعة! عند دخوله عالمنا لم يملك إلا الخرق التى غطته بها أمه، وعند خروجه منه لم يكن لديه إلا ما ستر جسده على الصليب! وصل إلى عالمنا فى ليل شتاء حين كان الرعاة يستدفئون، وعلى الصليب عُلّق فى ظُهر ربيع.

 هو من حضن الآب جاء، ومن رحم العذراء وُلد، وبعد إتمامه لمهمة الصليب عاد إلى أبيه، وهى بعد وفاتها حُمل جسدها إلى السماء. حول المذود هرع الرعاة  فرحين، وجاء المجوس ساجدين، ولكن حول الصليب وقف جند الرومان مستهزئين، وانتحبت المريمات باكيات.

المذود والصليب: درسان فى الاتضاع:

فى ميلاده وصلبه أظهر السيد قمة الاتضاع: ففى المذود “أخلى نفسه (من مجد الألوهية) آخذاً صورة عبد” (تى7:2) وفى صلبه: “أطاع (الآب) حتى الموت، موت الصليب” وظلّ لاهوته رغم اتضاعه غير منتقص أو متغير

فى ميلاده لم يُظهر الرب نفسه للمثقفين ولا للأبرار، بل لرعاة سُذّج إسرائيليين، ومجوس أمميين، فإنه جاء ليختار الجُهّال لكى يُخزى بهم الحكماء، ولكى يدعو – ليس الأبرار – بل الخطاة إلى التوبة.

وفى صليبه أضحى لليهود عثرة، ولليونانيين جهالة. فى ميلاده غطَّته العذراء بالأقمطة واللفائف، وفى صلبه عرّته البشرية من ثيابه!

عندما سمع الآب أنين البشرية من وطأة الخطية، أرسل إبنه مولوداً من إمرأة فى ملء الزمان، ولكنه لم يشفق عليه- حباً  فينا- وتركه يتجرع آلام الصلب إلى نهايتها، حتى أن المخلص صرخ متسائلاً: “إلهى إلهى لماذا تركتنى؟”.

هو عندما أراد أن يشترينا. اشترانا بدمه. ونحن عندما أردنا أن نبيعه- مع يهوذا- بعناه بثلاثين من الفضة… ثمن عبد!! هذا الذى لا تسعه السماء يستقبله اليوم مذود، ذاك الذى تخفى الملائكة وجوهها بأجنحتهما منه، تنازله المتناهى أدخله العالم وسط البهائم!

هدايا المجوس وتحقيقها:

جاء المجوس إلى مهده يحملون هداياهم: ذهباً ولباناً ومراً، رمزاً لمُلكه وكهنوته وعذاباته، وهذه كلها تحققت على الصليب: فبصلب المسيح صار هو ملكاً على قلوبنا التى اشتراها بدمه، حتى صالبيه كتبوا علّته على الصليب استهزاءً “ملك اليهود”. والمسيح على الصليب صار رئيس كهنة جديد، ولهذا انشق حجاب الهيكل معلناً إنصرام الكهنوت القديم. فالمسيح على الصليب كان هو الكاهن والذبيحة، المُصعِد والصعيدة بآن واحد.وأما عذاباته فقد وصلت قمتها فى يوم الصلب.

حدثان إعجازيان:

ومن العجيب أن قانون الإيمان يربط الحدثين فى اختصار وتتابع قوى وبسيط” …تأنس وصُلب”.

الميلاد والصلب: كلاهما حدث إعجازى مدهش وفريد ولن يتكرر فى التاريخ: فلا عرفت البشرية ميلاداً بدون زرع بشر قبل أو بعد ميلاد المسيح…ولن تعرف! ولا رأى التاريخ- من قبل أو من بعد- إنساناً مصلوباً بإرادته عقاباً لذنوب الآخرين… ولن يرى!

عبادة السماء والأرض:

لقد وُلد المسيح سنة أربعة قبل الميلاد، كما يرجّح بعض العلماء وزفّت جوقة الملائكة الأخبار السارة لميلاده، وحيّاه الرعاة البسطاء من الحقول المجاورة، وحكماء المجوس الوثنيين من أقصى الشرق مَقودين بنجم خاص، وبذلك تجمعت السماء والأرض فى عبادة ممتعة ليسوع الطفل.

وعند صليبه: صاح قائد المئة: “حقاً كان هذا إبن الله”. وتوسّل له اللص اليمين: “اذكرنى يارب متى جئتَ في ملكوتك”. وأعلنت الطبيعة حدادها على موت خالقها: فها الشمس قد أخفت شعاعها، والأرض ماجت مرتعدة، والذين فى القبور قد عادوا للحياة. وهكذا تجمعت السماء والأرض ثانيةً فى عبادة خاشعة ليسوع المصلوب!

 فى العيدين تصالحت السماء مع الأرض:

فى الميلاد أعلنت الملائكة: “المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام”. وبموت المسيح على الصليب “ صُولِحنا  مع الله” (رو10:5).

تقْدمات المخلوقات:

فى مولده قدّمت مخلوقاته هداياها مع المجوس: الملائكة ترنيماً، والسماء نجماً، والأرض مذوداً. وفى صلبه قدّمت البشرية من نتاج الطبيعة ما عجّل بموته: فقدمت من الأشجار صليباً، ومن النباتات شوكاً، ومن المعادن حربة، ومن السوائل خلاً.

ماذا قالت نبوات الكتاب عن هذَيْن اليومَيْن؟

الرموز والنبوات عن ميلاد المسيح فى العهد القديم متعددة، نذكر منها على سبيل المثال: سلّم يعقوب، وعصا هارون، والمجمرة الذهب، وعليقة موسى، وباب المشرق لحزقيال، ونبوات عاموس وصفنيا، ومجيئه فى بيت لحم (ميخا2:5) وولادته من العذراء (إش14:7) وميعاد ولادته (دا25:9) وقَتْل أطفال بيت لحم (إر15:31).

أما الرموز والنبوات عن الصليب فهى أيضاً كثيرة نذكر منها: تقدمة اسحق ذبيحة، والحية النحاسية، وحرب موسى مع عماليق، وموت المسيح على الصليب، وصلبه بين الخطاة وعدم فتح  فيه فى المحاكمة، وعدم كسر عظامه.

وماذا قالت الكنيسة؟

تعّلمنا الكنيسة فى ثيؤطوكية الخميس: “من أجل حواء أُغلِق باب الفردوس، ومن قِبل مريم العذراء فُتح لنا مرة أخرى”.

أما عن الصلب، فتصلى الكنيسة فى قطع الساعة السادسة: “يا من فى اليوم السادس وفى الساعة السادسة سُمّرت على الصليب من أجل الخطية التى تجرأ عليها أبونا آدم فى الفردوس، مزّق صك خطايانا أيها المسيح إلهنا وخلّصنا”.

وماذا قال القديسون؟

عن مفارقات ولادة الله المتجسّد يقول القديس غريغوريوس النزينزى: (المولود من الآب قبل كل الدهور وُلد من عذراء. فالولادة الأولى إلهية، والثانية بشرية. فى الأولى لم يكن له أم، وفى الثانية لم يكن له أب). وعن مفارقات صلبه يقول: (كخروف سيق إلى الذبح، ولكنه هو راعى إسرائيل. كحَمَل كان صامتاً مع أنه هو “الكلمة”، وقد كُرز به بواسطة “الصوت الصارخ فى البرية”. سُحق وجُرح، ولكنه الشافى لكل مرض وضعف. مات، ولكنه هو مُعطى الحياة!).

فى كل من اليومَيْن رسالة أمل ورجاء:

لم يستنكف السيد أن يولد فى مذود بهائم، تحيط به أصوات الحيوانات من ثغاء الأغنام وخِوار البقر، وكأن السيد يهمس فى أذنىّ- وأذن كل خاطئ- أن أتشجّع، حتى وإن كان فؤادى آثم ونفسى آسنة، ولكنه مستعد أن يسكن فىّ إذا ما فتحتُ له باب حياتى. وعلى الصليب تحاور السيد- فى الآمه- مع لص اليمين قبل أن يلفظ ذاك أنفاسه الأخيرة، ووعده أنه سيكون معه فى الفردوس فى نفس اليوم، وكأن الرب فى رقته المعهودة وحنانه المعتاد من الصليب يعلن على ملأ الخطاة: “إنظروا إلى افتتاحية فردوس المسيحية: لص.. لص تائب..

فيا بنى… لا يهم ما فعلتَه قبلاً من خطايا وآثام، فها أنا أدفع الثمن عنّك الآن وباقٍ عليك فقط شئ واحد: أن تتوب”!

ولادته الثانية وصلبه الثانى!

وكما أن القديسة العذراء حبلت به بالجسد، هكذا أيضاً نحن- إذا ما قَبَلنا عمل روحه فى حياتنا- نستطيع أن نحمله فى داخلنا بحسب قول بولس الرسول: “ليحل المسيح بالإيمان فى قلوبكم” (أف17:3).

وفى صلبه وموته عن البشرية جمعاء، رفضه بعضنا بأفعالهم وإصرارهم على خطاياهم، فكأنهم – أيضاً بحسب تعبير بولس الرسول: “يصلبون لأنفسهم إبن الله ثانيةً ويشهّرونه” (عب6:6).

خاتمة:

بميلاد المخلص أنعم على البشرية بشرف الأَخَويّة، فيوم ميلاده يوم عيد لكل الناس، لأنه وُلد للبشر أخ بكر تكملت فيه كل أعوازهم. وبصلبه مزق صك خطايانا وأعتقنا من أسر إبليس.

فسلام لك يا بيت لحم! فأنت حقاً لست الصغرى فى مدن يهوذا، فمن خلال مذود فيك مظلم منزوى، تم على أرضك أهم حدث فى تاريخ الإنسانية!

وأنت يا جلجثة أورشليم، ما أقدسكِ وما أشرفكِ! فقد ارتويتى بقطرات الدم الزكى، وفيه اغتسلت البشرية من آدم إلى آخر الدهور‍!

نحن مدعوّون للتعرف على المسيح فى ميلاده وصلبه، ولكن قلّ مَنْ يجده، وندر من يراه، لأننا نطلبه فى غير المذود، ونبحث عنه خارج الصليب!!

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى