عندما وصل المسيح إلى أرضنا فى ملء الزمان، أراد أن يَقْلب الموازين الإنسانية والمقاييس الفريسية، وتعمَّد فى مجتمع يتباهى بالأنساب ويتفاخر بالأحساب أن يأتى من سلسلة عائلة أحتوت على ثلاثة أسماء للنساء أقترنَّ بالخطية (راحاب وثامار وبتشبع) وأبقاها فى سجلات التاريخ للأجيال المتعاقبة لكى يفتح أذهاننا نحن الذين وصلت إلينا آخر الدهور عن حقيقة تمس صميم حياتنا الروحية:
لمن جاء المسيح؟
والسيد عندما يرسل لنا رسالة ذات معنى، فإنه لا يقولها أو يَذْكرها فقط، بل يُطبّقها عملياً أمامنا ويعيشها لتَضحى دائماً مثالاً حياً نحتذيه، وواقعاً مُعاشاً نتمثل به ونقلّده، ولتصير أيضاً قبسة أمل وبصيص نور لكل مَن أَسَرهم إبليس فى عبودية مُرة ويريدون أن يتغيروا. وكأن السيد يقول لكل منهم: «أيها الخاطئ أنا لا أستنكف أن تكون أنت من أفراد أسرتى، فأنا لهذا قد أتيتُ. لأجلكَ!».
وبالإضافة إلى احتواء سلسلة أنساب المسيح على خاطئات مشهورات، فإنه فى حياته قد وجّه أهتمامه ووقته ليتعامل مع الخطاة خاصة: فنرى رقته وتحننه فى تعامله مع المرأة التى أُمسكت فى ذات الفعل، ومع السامرية، ومع زكا العشار، ومع ساكبة الطيب، ومع شاول الطرسوسى. وكأنه يؤكد هو بفعله ما ودَّ القديس «متى» أن يدونه فى تاريخ تسلسل الأنساب (مت1:1-6) ويبقى النسب والفعل كلاهما ليرفعا من نفس كل مَن عَزَم على التوبة وتغيير المسار!
عندما أتوا إلى السيد بزانية أُمسكت فى ذات الفعل، تجمهر حولها الكتبة والفريسيون مستعدين لإلقاء الحجر الأول، ظناً منهم أنهم حماة الأخلاق ومطهرو المجتمع من أمثالها! ويأتى المسيح- مسيح الخطاة- بحنانه المعهود ورقته السامية ليدافع عنها- وعنهم- فى آن: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!» (يو7:8) سؤال استنكارى ليس فقط ليدافع به عن المرأة التى كادت كدمات الرجم أن تهشم رأسها، بل أيضاً ليدعو به السامعين أن يتأملوا أحوالهم همْ، وبدون ذِكْر أسماء أو الإشارة بالبنان، لئلا تُجرح النفوس التى يستطيع فقط عالِم الخبايا أن يفضحها على الملأ! وبهذا، تقهقر المُشتَكون عليها واحد بعد الآخر، حتى انصرفوا جميعاً:
– لعل بعضهم انصرف ليحاسبوا أنفسهم على خطايا أسقطوها على المرأة الزانية. خطايا جَبَنوا عن مواجهتها ولكن تشجعوا واندفعوا وتحمسوا بالإدانة عندما رأوها فيها!
– والبعض الآخر انصرف تجنباً للإحساس بالعار والخجل أمام كاشف الأسرار وأمام أترابهم، دون أن يحفِّز الخجل قلوبهم للتوبة، فبقوا ملفوفين متغطين فى برهم الذاتى، منتظرين مذنباً آخر لكى يُعرّوه على الملأ، مختفين وراء الناموس! يُسقِطون على الآخرين ما يكرهونه هم فى ذواتهم، وكأنه بتخطيئ المذنبين الآخرين ومحاكمتهم هم يتعامون عن آثامهم الشخصية ويتجنبونها.
لقد دعا المسيح شاول الطرسوسى ليصير مبشراً بالمسيحية ويداه لازالتا ملطختَيْن بدم المسيحيين الذين استشهدوا على يديه، وبذلك جعل من المجدف رسولاً، ومن المُضطهد مُبشراً انتشرت رسائله وبشارته إلى أرجاء المسكونة كلها!
إن الله يتغاضى عما سلف، ويصفح ويغفر الخطايا والآثام. لا يركّز على الضعفات بعد التوبة، لأنه يعرف أنها فُعلت بجهل فى عدم إيمان (1تى12:1). لقد قابله شاول فى الطريق إلى دمشق فسقطت من عينيه قشور، وانفتح بصره وبصيرته، فطفق يعكس أتجاه طريقه، وأمسى يجهر بمسيحه لكل الذين لا يعرفوه لكى ما يجذبهم إليه! ولِمَ لا، وهو خير من يعرف ظلمة القلب وعتامة الضمير لأنه هو نفسه قد عاشها! فقوة إقناع بولس الرسول للآخرين تأتى من رداءة سيرته السابقة التى مسّتها نعمة الرب وأضرمت فيها طاقة متأججة للتبشير لم تعِ حدوداً. وهكذا اقتاده صبر الله على الخاطئ وإمهاله وطول أناته إلى التوبة (رو4:2)
وعندما أراد اليهود أن يذمّوا المسيح، نعتوه بأنه «محب للعشارين والخطاة» (مت19:11)! وكأن السيد قد اقترف جرماً أو ارتكب ذنباً، ففى نظر اليهود المتعصبين فى جيل المسيح أن «محبة الخطاة» رذيلة! وما أشبه ذلك بما نقرأه حالياً فى علم المحسّنات البديعية فى علم اللغة العربية، وهو ما يسمى بـ «تأكيد المدح بما يُشبه الذم»، كما فى قولنا ونحن نُحَقّر من آخرين لا نحبهم مثلاً أنهم «أقوياء جداً» أو نصِف شاباً لا نستسيغه بأن «ذكاؤه خارق»، وهذا ما نعبّر عنه فى لغتنا الدارجة بأننا نشتكى من الورد أنه «أحمر الخدين»! وبمعنى آخر، عندما أراد اليهود أن يذمّوا المسيح فإذا بهم يمدحوه! ولولا هذه الصفة لما تجرأنا ودعونا أباه أبانا!!
يهتم يسوع بالساقطين لأنه لا ينظر إلى ماهمْ عليه، بل ما يمكن أن يكونوه، لا يتأمل ماضيهم، بل يرى إمكانية مستقبلهم. وهاهو ديوناسيوس الأريوباغى (أحد الكُتّاب المسيحيين البارزين فى القرن الثانى الميلادى) ينبهنا بشدة على أنه ليس لنا أن نقضى على أى إنسان كان من كان، ولا أن نحكم عليه بالهلاك الأبدى، وإن حمية غيرتنا أن ننتقم لله إنما تغلق علينا نحن أنفسنا، فى الواقع، داخل جحيمنا الخاص لحب انتقامنا نحن. أننا لا ننكر أن الشريعة القديمة كانت تُوجب الحكم بالقتل على الكافرين لحماية الشخصية البشرية الممثلة فى الشعب العبرى من الضياع فى عبادة الأوثان. ولكن مجئ المسيح أوجد وأوجب المحبة الشاملة لسائر البشر دون حدود، وهو نفسه رفض أن تنزل نار من السماء وتحرق السامريين الذين لم يقبلوه (لو53:9-56). وانتهر تلاميذه قائلا: «أنه لم يأتى ليُهلك الناس بل ليخلصهم»، وهو أيضاً قد طلب الصفح لصالبيه. ويظل دائماً فى جانب الذين يرفضونه. بل ويضع ذاته محامياً وشفيعاً عنهم. ففيه لم نَعُد نرى الله المنتقم الجبار، بل الإله الذى يستسلم للصلب راضياً. وعندما أراد الله أن يعدد صفاته ويذكر إنجازاته، لم يجد سوى الضعفاء والمحتاجين لكى ينسب نفسه إليهم، «الْمُجْرِي حُكْمًا لِلْمَظْلُومِينَ، الْمُعْطِي خُبْزًا لِلْجِيَاعِ. الرَّبُّ يُطْلِقُ الأَسْرَى. الرَّبُّ يَفْتَحُ أَعْيُنَ الْعُمْيِ. الرَّبُّ يُقَوِّمُ الْمُنْحَنِينَ. الرَّبُّ يُحِبُّ الصِّدِّيقِينَ. الرَّبُّ يَحْفَظُ الْغُرَبَاءَ. يَعْضُدُ الْيَتِيمَ وَالأَرْمَلَةَ» (مز7:146-9).
وعندما تكلم عن وظيفته كراعى، تفاخر بأنه: «وَأَطْلُبُ الضَّالَّ، وَأَسْتَرِدُّ الْمَطْرُودَ، وَأَجْبِرُ الْكَسِيرَ، وَأَعْصِبُ الْجَرِيح» (خر16:34).
وفى عمق الخطية والوحل، قد يصرخ الخاطئ متعجباً: «نفسى قبيحة وخلالى دميمة، أنا متسخ وتنبعث منى عفانة الموت، قد تقيّح جسدى بصديد الإثم، وأنتنت أحاسيسى التى خدرتها اللذة الأرضية، فعَلامَ يارب تسعى ورائى، ولماذا تطلب خلاصى أنا المُزدرى به وغير الموجود؟». ووسط ضباب الخطية وزئير العالم وإلحاحات الجسد يسمع الخاطئ إجابة المخلّص، ليست فى عظات مُطولة، ولا فى توبيخات قاسية، ولا تهديدات متوعدة، إنما فى كلمتين قصيرتين تحويان داخلهما مجلدات من التأملات: «لأنى أُحبك»!
إنه مسيح مدمن المخدرات الذى يحقن دماءه بيده، منتظراً أن يبيّض المدمن فعاله فى دم الخروف (رؤ14:7). يأسف لذلك الضعيف الواهن الذى يسعى وراء سموم تَعِده بسراب السعادة الزائف، لكى ما يكتشف المُدمن فيما بعد أن المخدّر قد أنهك صحته، وأفلس جيبه، وقوّض أسرته، وأضاع عمله، ووأد أبديته!
يواكب هؤلاء الذين يقتلون ويسفكون الدماء، تدمع مقلتاه من أجل قساوة قلوبهم، إذ يراهم يقتلون خلاصهم هم ويسفكون دماءه هو، ويمكث منتظراً متى يفيقون من إخفاقهم! يقف باكياً خارج مخادع الزناة، يتأفف من ضعفهم، ولكن لا يعافّ مجالستهم، بصيرته تثقب محاولتهم الفاشلة فى أشباع أجسادهم لأنه يعرف أن نفوسهم إنما تتضور جوعاً! يشاهد ما يكابدونه ويعانونه، إذ يترنحون من سكر الخطية ونشوة الإثم، بينما تعوى أفعالهم بفراغهم الداخلى، وترتشف أرواحهم ماءً مالحاً لا يزيدها إلا عطشاً!
ويمكث السيد واقفاً على باب الخاطئ يقرع، لا يهمه إن كان فى قيظ الصيف الحارق، أو زمهرير الشتاء القارس. يظل واقفاً خارجاً يقرع ويقرع. ويطرق الباب ويطرق، لا يحوّل فكره عن الخاطئ الذى بالداخل الذى فى عماه يطرق دروباً وسككاً متباينة علها تشبعه، ويترك الخبز الحقيقى الذى يبقى منتظراً ببابه! ومن حساسية السيد أنه يستمر منتظراً بالباب، لا يملّ ولا يفقد الأمل، حتى ولو كان الباب لمنزل عتاة الإجرام وسافكى الدماء ومحترفى الخطية! ولا يُقحم نفسه عنوة على آثم لم يكلف نفسه عناء فتح الباب لكى يدعوه للدخول. يحترم إرادة من خلقهم، ويود لو أن الجميع يأتوا إليه طواعية! يرى فى كل منهم لؤلؤة النفس الثمينة جداً التى قد صاغها على صورته. وقد أصابها صدأ العالم وصديد الخطية، وينتظر فى صبر عجيب ومثابرة. من يسمح له أن يأتى ويجلو الصدأ ويبلسم الصديد، فتمسى النفس ثانية ماسة ثمينة بعد أن مستها سماحة مسيحها!!
إن مراحم الله لا نهاية لها، تتسع حتى لمن يعتقد أن ذنوبه تفوق رحمة الله! ويبقى هو كما هو: شبعاً لمن لم يجدوا إمتلاءً فى سُعارهم الآثم، ورواءً لمن تركتهم أهوائهم ظمأى! واحة للمارين ببيداء الحياة، وراحة للاهثين وراء سراب المتعة الوقتية.
إنه مسيح العالم كله:
يبكى مع الباكين، ويعتنى بالمعتوهين.
يشد المشلولين، ويرثى لمن رثَتْ ثيابهم.
يهفو أن يُنهِض الهابطين من هفواتهم.
وينحنى للوحل لكى يحنو على المنحدرين.
يقيم القتلة والمقامرين والقوَّادين.
يوآخى الخطاة ويعاشر العشارين ويزامل الزناة!
إنه مسيح مريم القبطية وبائيسة وموسى الأسود!
إنه مسيح هتلر وستالين وماوتسى تونج!
إنه مسيح ريتشارد راميرز وجيفرى دامر، وسكوت بيترسون!
إنه مسيح أنور السادات وبن لادن وأيمن الظواهرى!
إنه مسيح الكل.. إذا تابوا!
وعن إله الخطاة يقول الشيخ الروحانى: «مرذول قدام الله من يبغض الخاطئ» ويسأل قديس آخر الخاطئ سؤالاً، يتركنا فى تأملات تُحضر الدموع من أعيننا وتُحدرها عن اتضاع الله: «أيها الخاطئ الله يريد أن يصطلح معك، فما هى شروطك؟»