في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، قامت الفنانة الصربية «مارينا أبراموفيتش»، بتجربة فريدة لكي تتعرّف أكثر على تصرفات البشر. إذا مُنحت لهم الحرية المطلقة دون مقاومة، فقررت أن تقف لمدة ستة ساعات متواصلة دون حراك، واتاحت للجماهير أن يفعلوا بها ما أرادوا، بعد أن تركت لهم على طاولة تجاورها، العديد من الأشياء المؤذية، التي تغوي على استخدامها، اسوأ ما في النفس البشرية. من بين هذه الأشياء: سكين، ومسدس، وأشواك الأزهار! في البداية، اکتفى الحضور بالوقوف أمامها، ومشاهدتها ككيان من إبداع الخالق! وعندما تيقنوا أنها لن تجابههم بأي رد فعل انتقامي، مهما كان نوع تصرفهم تجاهها، أصبحوا أكثر شراسة وعدوانية، ومارسوا تصــرفــــات مشـــيـنـة ومــــؤلمـــة: .. فقد وجه أحدهم المسدس إلى رأسها، وكاد أن يطيح به! .. وقــــــام آخـــــر بتـــمــــــزيـــــق ملابســــها، والتحـــــرش بجســــدها! .. وآخر نكزها في بطنها بأشواك الأزهار! لقد تحمّلت، هذه الفنانه، بأدائها الجسدي، وقوة عملها الملهم الآتي من منطقة عميقة من كيانها الإبداعي. هذه الهمجية المتوحشة، بصبر وجلد عجيبين، إلى أن انتهت الساعات التي حددتها، فتحركت من مكانها، دون أن تتخذ أي موقف عدائي ضدهم! لكنها كانت قد اثبتت: أن الذين نتعامل معهم يومياً مهما اختلف عرقهم وسنهم، وخلفياتهم، لقادرون على ارتكاب أفعال شنيعة، إذا اتيحت لهم الفرص الحبلى بالسلبية، دون رادع من قيم، ومن قانون، ومن نظام! وفي بلادنا. حيث مخاضات الثورات «الخريفية» المتتابعة، انفلتت الحرية عن مساراتها المقدسة، وأصبح الاندلاع الاحتجاجي. الذي كاد أن يصبح يومياً. ينطلق على هواه. كمحاولة يائسة لتمرير أسطورة: «الحر الفوضوي الثائر». والاستمتاع بالحرية في الحرية إلى أبعد مدى.. وكأن القوانين الملزمة في اعتقادهم الخاطيء، تُحدّ من حريتهم مع انها تتيح للحرية الحقيقية إمكانية أعظم، وتجعلها قريبة لهؤلاء الذين يتبعون القوانين والضوابط الأخلاقية! ذلك لأن البعض لم يفهم معنى الحرية قبل أن يطالب بها، ويعتصم من أجلها ويحرق المؤسسات، ويقتل الابرياء في سبيلها، ولأن البعض لم يدرك بعد بأن في داخل كل منا ترقد لعنة الحرية الشريرة! قالت الممثلة «مارينا أبراموفيتش». في اختـــزالٍ لفلسفتها الأدائــيــة: "على الفنان أن يتألم، فمن الألم تــــأتــــي أحــــســـــن الأعـــمـــــــــال"! ويمكننا أن نضيف: «وأحسن العبر»! وأن نقول بثقة: ينبغي ألا نــعـطــي بعض النـــــاس حــــــرية مطلقة أكـثــر مما يستحقون!...