تُعيد الأيام كرَّتها، ويأتى بنا الزمان فى هذا العام إلى ما سمّاه آباء البرية «ربيع الحياة الروحية»- أى الصوم الكبير- وتبدأ بيوتنا بالاستعداد لهذه الفترة بالتخلي عن الأطعمة الحيوانية ومشتقاتها والاقتصار على الأكل الصيامى، مع ما يصحبه من فترة إنقطاع عن الطعام وحضور قداسات الصوم الكبير التى لها مذاق خاص وتأثير روحى قوى يصعب على الإنسان أن ينساه، بل ينتظره ويتلهفه من عام إلى عام.
والبعض منا فى نهاية الصيام قد يتساءل نفس السؤال الذى رفعه بنو إسرائيل لله على لسان إشعياء النبى: «لِمَاذَا صُمْنَا وَلَمْ تَنْظُرْ، ذَلَّلْنَا أَنْفُسَنَا وَلَمْ تُلاَحِظْ؟» (إش 3:58) فيجيبهم الرب فى نفس الإصحاح على سؤالهم بسؤال آخر: «أَلَيْسَ (الصوم) أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟ إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَانًا أَنْ تَكْسُوهُ، وَأَنْ لاَ تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ» (إش7:58).
وهنا يرفع الله أنظارنا ويسمو بأرواحنا إلى ماهية الصيام فى نظره- فرغم أن تغيير نوع الطعام، وفترة الإنقطاع، وتقديم توبة صادقة، والتقرب من الوسائط الروحية، كلها لها أهميتها وأسانيدها الكتابية، إلا أن أعمال الرحمة والشفقة بالآخرين تبقى هى اللغة المترجمة التى يحثنا عليها الله- ويفهمها الآخرون- لكل جهاد داخلى. ولعل هذا ما حدا بالمسيح أن يتخذها كمعيار يميّز به بين الجداء والخراف، حيث يقول للخراف: «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ» (مت34:25-36).
وبهذا يشير العهدان (القديم والجديد) فى سيمفونية وتناسق عجيبين إلى دروب الملكوت الذى لا يدخله إلا من فتح فؤاده بالحب للآخرين بدون إستعلاء أو تفاخر.
أننا نميل كلنا أن نحب من نظن أنهم يستحقون حبنا، نتقرب من المقتدرين والفاهمين والجميلين، وندنو من الأقوياء والأصحاء والأذكياء، ونصادق من حسنت سمعتهم وصداقاتهم وهيبتهم. وأيضاً نميل أن نعزف عن حثالة القوم وأن نتجنب المُهمّشين المهملين، ونفصل أنفسنا عن المرضى بالجسد والنفس، أو من قبُح شكلهم وقسى عليهم الزمن وأحنت عليهم الأيام.
مفهوم الصوم:
فى فترة الصوم نختار لأمعائنا أكلاً نباتياً فقط، ولكن قلوبنا من ناحية المساكين قد تصخرت، ومشاعرنا تصحّرت! ننظر إليهم وكأننا طبقة سامية عنهم عالية عليهم من الأجناس البشرية. وكما لو كان أصلنا نحن مختلف عن أصلهم، وكأننا- دونهم- لم نأتِ من تراب، أو كان ترابنا نوع فخم يفوق أتربتهم العادية! لقد أراد المسيح أن ينبهنا للطبقات الدنيا من البشر- أو من نعتبرهم نحن طبقات دنيا- بأن نَسبَ نفسه إليهم، ونسبهم إلى نفسه، فدعاهم «أخوته الأصاغر» (مت40:25) فلن ينفع أُخوة المسيح بأن نتشدّق لهم بزخرف الدعاء فقط، أو ثمين النصائح، أو حكمة المواعظ، بل علينا أن نعمل، أن نمد لهم يد العون والمساعدة، ونبذل لهم المجهود والوقت والمال. عندما أراهم فى مسيرة حياتى. لن ينفعهم- أو ينفعنى- أن أجوز مقابلهم وأن أنصحهم أن «يذهبوا ويستدفئوا» دون أن آخذهم أنا إلى الدفء، أو أُحضِر الدفء لعندهم!
عندما صحّح لنا الله مفهومنا عن الصيام فى آيات إشعياء النبى، إنما أراد أن يلفت أنظارنا أن الصيام فى حقيقته هو خروج عن الذات (التى تطلب دائماً أن تأكل وتتمتع وتتلذذ) للمشاركة مع الآخرين، فيصير خبزى للجائع، وبيتى للبائسين المطرودين. الله هنا يُعدِّل لنا الرؤية ويقوّم الاتجاه ويعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، لأن الصوم هو التقرب إلى الله، وبالتالى يجب أن نتقرب من البشر كلهم لأنهم عائلته وأحباؤه، وندنو خصوصاً من هؤلاء الذين يحتلون مكانة مميزة فى عينيه، ألا وهم المُعوزون والمحرومون الذين وحَّد المسيح ذاته بهم!
أخوة المسيح الأصاغر:
إن قائمة أخوة المسيح طويلة، وتتضمن كل من نظن- بحسب نزعتنا النرجسية- أنه لا يستحق الحب: كل الفقراء والمشرَّدين، والذين بلا مأوى، والمرضى بالجسد ومرضى النفس والمتأخرين عقلياً ومدمنى المخدرات، وقاطنى الملاجئ ومراكز كبار السن، والأيتام والذين فقدوا من يعولهم، ساكنى المدن العشوائية، والغرباء والعرايا، والمزجوج بهم فى السجون، والجوعى والعطاشى، والمنبوذين والمُهمِّلين والمعتوهين وكل من انحدر إلى قاع المجتمع، أو أحدرهم المجتمع إلى قاعه! كل من أهان وأهمل شخص ابن الله ذاته. وهكذا انحاز المسيح فى حياته الأرضية إلى الجزء الأضعف والأذل فى البشرية ليجعل لنفسه منهم شهوداً فى محاكماته القادمة للمسيحيين.
ومن أهمية هؤلاء- أخوة المسيح الأصاغر- أنهم استطاعوا أن يقسّموا البشرية كلها- بحسب معاملة البشرية لهم- إلى يمين يتعزى فى الملكوت، وشمال يتعذب فى النار الأبدية، وكأن المسيح عندما صعد إلى السماء، سلم لهؤلاء المنبوذين الشفاعة عوضاً عنه! وهكذا أسبغ عليهم كرامة لم تستطع البشرية أن تراها فيهم!
فلنحب المسيح المتخفى:
– عندما أنظر إلى مريض الفالج (الشلل النصفى) وهو يمشى الهوينى، يصارع لكى يحفظ أتزانه، ويده عديمة النفع قد تدلت بجانبه ضامرة متقلصة، ورجله المشلولة يسحبها ويجرّها وراءه فى منظر يبعث فى بعضنا- ليس الرثاء والشفقة- ولكن الاستهزاء والسخرية
… فإنى أنظر إلى المسيح نفسه!
– وعندما أقابل مريضاً بانفصام الشخصية Schizophrenia فأتأفف من إهماله لهندامه وعدم إهتمامه بنظافته بسبب مرضه العقلى، وأزدرى به عندما يتحدث فلا يتصل منه الحديث كالعقلاء، أو يتحدث عن هلوسة وخيالات يخالها حقيقة، وأراها أنها مضحكة أو مقززة…
… فإنى أتأفف وأزدرى بالمسيح عينه!
– وعندما تقع عيناى فى طريقى على مُشرّد وبلا مأوى Homeless وقد توسّد الرصيف والتحف بأسمال بالية مُهَلهَلة، وقد عرّته الحياة ليس فقط من ملابسه، بل أيضاً من آدميته، وسلبته الظروف ليس فقط ممتلكاته بل أيضاً عطف الآخرين، وسرقت منه ليس فقط أمواله بل أيضاًعلاقاته العائلية. آراه وهو يعوزه الملجأ الذى يمنع البرد، واللقمة التى تسند الأود، والملبس الذى يقى الجسد، والدواء الذى يدرأ المرض، فإذا ما بدأتُ أستهجن منظره، وأتعالى عليه عقلياً حتى وبدون كلام، وألومه على ماصار عليه حاله،
… فإنى استهجن وأتعالى على المسيح ذاته وألومه!
– وعندما ألمح على قارعة الطريق محترفة البغاء، التى تتاجر بجسدها من أجل حفنة دولارات- هذا إذا وصلها أى مال! وأراها تجول الشوارع فى شبه عرى تعد زبائنها بالسعادة الجسدية للحيظات، فأنعتها فى ضميرى بصفات سلبية عديدة، وينتابنى شعور بأنها لا تعلو إلى مستوى «طهارتى» و «عفتى» ولا أتغلغل وراء غلالة الجسديات لأرى بؤسها وشقاءها، وما تتعرض له من ضرب وأهانة واستغلال نفسى وجسدى ومادى ومعنوى من قَوَّادها وزبائنها، وما يقترفها من شعور بالخزى والخجل والدونية والاكتئاب وفقد الأمل فى حياة شريفة، فعندما أدينها،
…. فإننى أدين المسيح هو هو!
– وعندما أقابل فى المستشفيات مريضاً بمرض «الأيدزAIDS مكوَّماً فى فراشه بلا حراك وقد ذابت عضلاته وأتسع جلده عليه، عيناه غائرتان ووجنتاه بارزتان ولونه قد علاه إصفرار الموت، عظامه ناتئة وأسنانه بارزة، فإذا ما ركبتنى عند رؤيتى له موجات الإدانة وطفقت فى صمت أكلم نفسي عقلياً بأنه: «قد جنى حصاد أفعاله، وهو نفسه قد أردى بنفسه إلى التهلكة، وقد حان الآوان لجسده أن يدفع ضريبة تهوره، وما هو فيه ليس إلا عقاب السماء على أنصياعه لغرائزه و…» وأثناء هذه الأفكار أميل إلى احتقاره وتجنبه،
… فإنى أحتقر وأتجنب المسيح شخصياً!
ففى فترة الصوم الكبير- صوم الرحمة- علينا أن نحب من ظننا أنهم لا يستحقون الحب، أو- إذا جاز التعبير- علينا أن نحب من لا نحبه! فالمسيح موجود مع الفقراء، إنه فى الفقراء وليس فى الفقر، فى المريض وليس فى المرض. هو ساكن فى المحتاجين إلى الرحمة وإلى الرثاء والعطاء. فعلينا فى فترة الصيام أن نعمل على أنسنة الإنسان.
فلنُطعِم المسيح الجائع ولنكسو جسد المسيح العارى، ولنزر المسيح المريض ولنروِ المسيح العطشان!
إقرضْ الله:
يقول صاحب الأمثال: «من يرحم الفقير يقرض الرب، وعن معروفه يجازيه» (أم17:19) وهنا يصل اتضاع الله لمنتهاه، فبينما هو ديّان الأرض كلها، يَضحَى- فى صورة الإنسان الفقير مديوناً! وبينما هو يعطى الجميع بسخاء ولا يُعيّر، يَمسي فى- صورة الإنسان المعوّز- مُستلفاً!
وبهذا يستعير الله صورة المحتاج، ويتشح بلباس الفقير، ويعيش إحساس المُعوز! كان يمكن لله أن يقول: (من يرحم الفقير كأنهيقرض الرب) ولكنه قال: «من يرحم الفقير يقرض الرب (نفسه)» وبهذا:
1- يأخذ الله الدَيْن كمسئولية شخصية عليه نيابة عمن لا يستطيع أن يرد الدَيْن.
2- يهب الله الشخص المُعطِى امتيازاً وكرامة لا يستحقها ولا يجرؤ أن يسألها، إذ أن المُعطى يقرض الله عينه! فيالسعادته!
وفى هذا يقول البابا شنوده فى أحدى مقالاته: «العطاء فى المسيحية ليس إحساناً، فنحن لا نحسن على أحد، نحن نعطى الغرباء حقوقهم التى أودعها الله لدينا كوكلاء على أموالهم».
ولهذا نخطئ عندما نتعامل مع أخوة المسيح فنستخدم كلمات مثل «الإحسان» و «الصدقة» و «العطاء» لأنها كلمات خطرة جداً إذ تحمل فى مضمونها علاقة فَوقْية من قِبَل من أعطاهم الله تجاه الأقل حظاً، ومن قِبَل الأقوياء (أو الذين يظنون أنفسهم كذلك) تجاه الضعفاء أو المستضعفين. وعندما دعا المسيح الأصاغر أخوته، لم يفعل ذلك مجازاً ولا مثالاً ولا تجاوزاً ولا تصوراً، بل حقاً هو يعيش فيهم، فهو منذ بداية حياته الأرضية أرتضى أن يأخذ شكل العبد المُهان، فلما صُلب وقام وصعد إلى مجده، ترك بصمته وهويته فى كل عبد مهان، لكى يترك لمؤمنيه فى حياتهم الأرضية اختباراً عملياً واقعياً ومُعاشاً لكى يتعاملوا معه هو!
وعندما استخدم السيد مثال «كأس ماء بارد» كأنه أراد أن يقول أن أى عمل رحمة يُقدم للمساكين، إنما هو عمل رحمة به هو نفسه: «فبى (أنا نفسى) قد فعلتم» مهما تضاءل وصغر حجم العمل فى نظرنا، فنحن لا نعرف عملاً أقل عناءً أو أقل تكلفة من تقديم كوب ماء بارد!
وهنا أذكر قصة الفقير الذى كان يسكن بيتاً متواضعاً جداً قرب رجل غنى يسكن فى قصر، فقالوا له: «أنت أكيد غاضب من ربنا لأنه خلقك فقيراً وجارك غنى كثيراً» فقال لهم: «لا، أنا غاضب من جارى الذى أوصاه الرب أن يهتم بى ولم يفعل!»