لا أستطيع أن أصدق أن نحو أربعين عاما انقضت على رحيل القاص يحيي الطاهر عبد الله في 9 أبريل 1981. يبدو لي كأنه غادرنا أمس فقط ، ثم أنه غادرنا لمشوار قصير وسيرجع ليواصل حكاياته وقصصه التي كان يلقيها شفاهة. ربما يكون السبب ليس فقط ما تركه يحيي من بصمة قوية في عالم القصة القصيرة، ولكن شخصية يحيي المأساوية والخصبة وقلقه الذي كان ينقله للآخرين وحركات يديه التي لا تتوقف حول وجهه، ثم الشعور الدائم بأنه يبذل جهدا مؤلما لكي يتواءم مع العالم من حوله.
و ربما كان يحيي الوحيد من بين أبناء جيل الستينات الذي كنت تشعر وأنت تصافحه أنك تصافح دمه. في تلك السنوات كانت القاهرة تبدو صغيرة، ومقاهي المثقفين معدودة، وكان ثمة شعور بأن جيلا جديدا يتكون ويتخبط في ظل الناصرية ويحاول بقبضاته الصغيرة أن يطرق أبواب السماوات الضخمة الملبدة بالمجهول.
في تلك السنوات نشأت علاقتي أوثق ما تكون بأربعة من أبناء جيلنا هم جمال الغيطاني وأمل دنقل وأحمد هاشم الشريف ويحيي الطاهر. وكنا جميعا من القاهرة أما يحيي فقد جاء من الصعيد إلى مدينة ليس له فيها أحد أو شيء، يجوب الشوارع من دون بيت أو سقف أو دعم، قصصه كلها في رأسه يقرأها من الذاكرة، وكل ما يملكه قميصه الذي يهفهف فوق صدره، فكان أشبه بفكرة مجردة تخففت من كل شيء إلا أحلام القاص العظيم وطبيعته القلقة. ولعله الوحيد بين أبناء جيل الستينات الذي أصر على تسجيل مهنة ” قاص ” في بطاقته الشخصية وتمكن من ذلك. كان أول من نبهني إلي أهمية الفن السينمائي، وإلي ضرورة متابعة الأفلام بعين يقظة وإلي الكثير من الكتب التي ينبغي قراءتها وإلي النظر إلي العالم كوحدة متكاملة.
أذكر أننا كنا نمشي في شارع حين ضرب حجرا على الأرض بطرف قدمه قائلا:” وحتى هذا الحجر مرتبط بنا ، وبما يجري في كل مكان، انظر إليه وحاول أن تفهمه”.
في الستينيات جرفنا تيار ماركسي اعتقل منه البعض عام 1966، كان منهم صلاح عيسى وابراهيم فتحي وجمال الغيطاني، وكان يحيي مطلوبا للاعتقال، لكنه تمكن من الهروب والاختفاء عن أعين الحكومة حينذاك، وكنت ألتقي به سرا لأقوم بتوصيل النقود والملابس إليه. وأذكر أنه كان دائم القلق والخوف من أن تعلم عطيات الأبنودي بمكان اختفائه أو بأنني ألتقي به، وطمأنته عدة مرات إلى أنني لم أفصح لها عن شيء.
وبعد شهور من الهروب تم اعتقال يحيي لعدة شهور ثم خرج مع الجميع، وعلمته تجربة السجن أن عليه أن يكرس كل دقيقة من حياته للعمل الأدبي الذي فطر عليه.
وكان قد بهرنا بقصتين شهيرتين هما” محبوب الشمس”، و ” 35 البلتاجي ” اللتين نشرتا في مجلة الكاتب بتقديم من العظيم يوسف إدريس، ثم واصل الابداع ليعرض علينا عالما جديدا بلغة جديدة وأبنية فنية جديدة طازجة وهو ما أشار إليه يوسف إدريس بعد وفاة يحيي في مقاله ” النجم الذي هوى”، ولعل يوسف إدريس كان على حق حين قال إن التجربة الأدبية لذلك القاص المدهش كانت أشبه ما تكون بمعمل في طريقه لإنجاز اختراع مذهل لكن قصفا مفاجئا أوقف التجربة في منتصفها، ولم يكن ذلك القصف سوى الموت الذي اختطف يحيي في حادث سيارة على طريق القاهرة الواحات في 9 أبريل 1981.
ترك يحيي الطاهر سبع مجموعات قصصية تعد علامة في تاريخ القصة بدءا من ” ثلاث شجرات تثمر برتقالا” عام 1970، ثم ” الدف والصندوق” 1974، و” الطوق والأسورة ” 1975 التي تحولت إلى فيلم شهير، و” أنا وهي وزهور العالم ” 1977، وفي نفس العام نشر” الحقائق القديمة صالحة لاثارة الدهشة”، ثم قدم ” حكايات للأمير” بعدها بعام وأخيرا عام 1981 قبل موته نشر ” تصاوير من التراب والماء والشمس”.
لا أدري أكان حتما أن يموت يحيي في حادث؟ لكنني كلما تذكرته جرفتني فكرة أن كاتبا عجيبا مثل يحيي كان لابد أن يختار الموت بطريقة خاصة. أتذكره وأراه مشحونا بكهرباء القلق الفني الخصب، لا يملك منالعالم سوى قميص يهفهف مفتوح فوق صدره، وقدمين تجوبان الشوارع من دون توقف، وخيال بلا حدود، ويدين لا تتوقفان عن الاشارات والحركة بعصبية وحدة. هكذا كان وهكذا سيبقى ” محبوب الشمس”.