د. أحمد الخميسى

الـبـاب المـغـلـق

بقلم/ د. أحمد الخميسى 

في‭ ‬شقة‭ ‬صغيرة‭ ‬بالطابق‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬عمارة‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬الظاهر‭ ‬سكن‭ ‬الأستاذ‭ ‬موريس‭ ‬المحاسب‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬البنوك‭ ‬مع‭ ‬زوجته‭ ‬مدام‭ ‬جانيت‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬تعليم‭ ‬لغات‭ ‬أجنبية‭ . ‬الإثنان‭ ‬تجاوزا‭ ‬سن‭ ‬الإنجاب‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينجبا‭ ‬،‭ ‬لكنهما‭ ‬قانعان‭ ‬بحياتهما‭ ‬التي‭ ‬تمضي‭ ‬في‭ ‬هدوء‭ ‬وتتخللها‭ ‬نزهات‭ ‬وزيارات‭ ‬يوم‭ ‬الإجازة‭ . ‬في‭ ‬العمارة‭ ‬محمود‭ ‬البواب‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬أسوان‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬وعاش‭ ‬أسفل‭ ‬السلالم‭ ‬وحده‭ ‬مع‭ ‬ابنته‭  ‬الصغيرة‭ ‬هدى‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تشتري‭ ‬للسكان‭ ‬وخاصة‭ ‬لمدام‭ ‬جانيت‭ ‬الحاجات‭ ‬من‭ ‬المحلات‭ ‬الواقعة‭ ‬أمام‭ ‬العمارة‭ . ‬موريس‭ ‬وجانيت‭ ‬–‭ ‬المحرومان‭ ‬من‭ ‬الأولاد‭ ‬–‭ ‬أحسا‭ ‬بميل‭ ‬وبعطف‭ ‬على‭ ‬البنت‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تطلب‭ ‬شيئا‭ ‬حين‭ ‬تعود‭ ‬إليهما‭ ‬من‭ ‬المحل‭ ‬وتكتفي‭ ‬بابتسامة‭ ‬واهنة،‭ ‬سعيدة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يعطى‭ ‬لها،‭ ‬سواء‭ ‬أكان‭ ‬ورقة‭ ‬نقدية‭ ‬أم‭ ‬نصف‭ ‬رغيف‭ ‬خبز‭ ‬بداخله‭ ‬قطعة‭ ‬لحم‭ . ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬المغرب‭ ‬كان‭ ‬يحدث‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬هدى‭ ‬بشاي‭ ‬أو‭ ‬خبز‭ ‬للأستاذ‭ ‬موريس،‭ ‬وتكون‭ ‬الشقة‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬الضيوف،‭ ‬فتقول‭ ‬لها‭ ‬مدام‭ ‬جانيت‭ : ‬اقعدي‭ ‬يا‭ ‬هدى‭ ‬استريحي‭ ‬وأنت‭ ‬طالعة‭ ‬نازلة‭ ‬طول‭ ‬النهار‭ . ‬فتجلس‭ ‬هدى‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬الفوتيه،‭ ‬كأنها‭ ‬تخشى‭ ‬أن‭ ‬تجلس‭ ‬عليه‭ ‬كله،‭ ‬تبحلق‭ ‬في‭ ‬التلفزيون‭ ‬بصمت،‭ ‬فإذا‭ ‬قدمت‭ ‬لها‭ ‬مدام‭ ‬جانيت‭ ‬قطعة‭ ‬كيك‭ ‬صغيرة‭ ‬قضمت‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ترفع‭ ‬بصرها‭ ‬عن‭ ‬الشاشة.

وتظل‭ ‬جالسة‭ ‬هكذا‭ ‬إلي‭ ‬أن‭ ‬تسمع‭ ‬صوت‭ ‬والدها‭ ‬ينادي‭ ‬عليها‭ ‬لأن‭ ‬أحد‭ ‬السكان‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬الثالث‭ ‬أو‭ ‬الرابع‭ ‬يطلب‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬المحلات‭ ‬،‭ ‬حينئذ‭ ‬تفز‭ ‬هدى‭ ‬،‭ ‬وتهرول‭ ‬،‭ ‬وتغمغم‭ ‬من‭ ‬عند‭ ‬الباب‭ ‬وهي‭ ‬تنصرف‭ ‬بكلمات‭ ‬شكر‭ ‬غير‭ ‬مفهومة‭ . ‬تغادر‭ ‬هدى‭ ‬الشقة‭ ‬فينسل‭ ‬لون‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬الجو‭ ‬،‭ ‬ويحل‭ ‬شعور‭ ‬خفيف‭ ‬حزين‭ ‬في‭ ‬الصالة‭ ‬وعلي‭ ‬كسوة‭ ‬المقاعد،‭ ‬شعور‭ ‬بالوحدة‭ ‬والأسف،‭ ‬ويتفادى‭ ‬موريس‭ ‬وجانيت‭ ‬أن‭ ‬تتقاطع‭ ‬نظراتهما‭ ‬،‭ ‬إلي‭ ‬أن‭ ‬ينطق‭ ‬هو‭ ‬ورأسه‭ ‬فوق‭ ‬الجريدة‭ ‬بعبارة‭ ‬ما،‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬معنى‭ ‬خاص

و‭ ‬تؤكد‭ ‬هي‭ ‬على‭ ‬كلماته‭ ‬التي‭ ‬شردت‭ ‬عنها‭ ‬وعيناها‭ ‬سارحتان‭ : ‬طبعا‭ . ‬طبعا،‭ ‬ثم‭ ‬تنهض‭ ‬واقفة‭ : ‬أعمل‭ ‬لك‭ ‬شاي؟‭ . ‬وينظر‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬إلي‭ ‬الآخر‭ ‬نظرة‭ ‬تنقل‭ ‬مزيجا‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭ ‬العتاب‭ ‬والذنب‭ ‬والغفران‭ ‬ومن‭ ‬العرفان‭ ‬لأنهما‭ ‬مازالا‭ ‬معا‭ ‬،‭ ‬ولأن‭ ‬أيا‭ ‬منهما‭ ‬لم‭ ‬يقل‭ ‬للآخر‭ ‬أبدا‭ ‬إن‭ ‬الحياة‭ ‬موحشة‭.‬

في‭ ‬يوم‭ ‬آخر‭ ‬تطرق‭ ‬هدى‭ ‬الباب‭ ‬،‭ ‬وتجلس‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬الفوتيه‭ ‬أمام‭ ‬التلفزيون‭ ‬تتفرج‭ ‬بفيلم‭ ‬كوميدي‭ ‬قديم،‭ ‬تأكل‭ ‬مما‭ ‬يقدم‭ ‬لها وفي‭ ‬تلك‭ ‬الأثناء‭ ‬تقيس‭ ‬عليها‭ ‬مدام‭ ‬جانيت‭ ‬فستانا‭ ‬قديما‭ ‬ضاق‭ ‬على‭ ‬نجوى‭ ‬بنت‭ ‬أختها‭ ‬،‭ ‬وتفرح‭ ‬هدى‭ ‬،‭ ‬وتنهض‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬وتساعد‭ ‬مدام‭ ‬جانيت‭ ‬في‭ ‬غسل‭ ‬الصحون ثم‭ ‬تنام‭ ‬على‭ ‬الكنبة‭ ‬في‭ ‬الصالة‭ ‬حتى‭ ‬الصباح‭ ‬أبوها‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬مشكلة‭ ‬في‭ ‬بياتها‭ ‬المتكرر فشقة‭ ‬موريس‭ ‬وجانيت‭ ‬قريبة‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬الأول‭ ‬بجوار‭ ‬السلم،‭ ‬والأستاذ‭ ‬موريس‭ ‬رجل‭ ‬طيب‭ ‬وكبير‭ ‬في‭ ‬السن‭.‬

كل‭ ‬يوم‭ ‬أربعاء‭ ‬يتجه‭ ‬أبو‭ ‬هدى‭ ‬إلي‭ ‬مستشفى‭ ‬قصر‭ ‬العيني‭ ‬لغسيل‭ ‬كليته،‭ ‬ويعود‭ ‬منهكا‭ ‬أصفر‭ ‬الوجه‭ ‬يرقد‭ ‬على‭ ‬فرشته‭ ‬وهدى‭ ‬تناوله‭ ‬الماء‭ ‬والخبز،‭ ‬هكذا‭ ‬رجع‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬،‭ ‬لكنه‭ ‬اليوم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رقد‭ ‬ساعتين‭ ‬يئن‭ ‬تحت‭ ‬السلم‭ ‬فارق‭ ‬الحياة‭. ‬وانتبه‭ ‬سكان‭ ‬العمارة‭ ‬إلي‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬لمحمود‭ ‬البواب‭ ‬لا‭ ‬عنوانا‭ ‬ولا‭ ‬أقاربا‭ ‬،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يذكرهم‭ ‬بأصله‭ ‬سوى‭ ‬أبناء‭ ‬بلدته‭ ‬العابرين،‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يظهرون‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬عمل‭ ‬،‭ ‬فيشربون‭ ‬معه‭ ‬كوب‭ ‬شاي‭ ‬على‭ ‬الدكة‭ ‬أمام‭ ‬مدخل‭ ‬العمارة‭ ‬ويستمعون‭ ‬لنصائحه‭ ‬ثم‭ ‬يرحلون‭. ‬الحاج‭ ‬شفيق‭ ‬قام‭ ‬بجمع‭ ‬تبرعات‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬العمارة‭ ‬وتولى‭ ‬مع‭ ‬الأستاذ‭ ‬موريس‭ ‬إجراءات‭ ‬الدفن‭. ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬ظلت‭ ‬هدى‭ ‬واقفة‭ ‬تشبثت‭ ‬قبضتاها‭ ‬الصغيرتان‭ ‬بالسور‭ ‬الحديدي‭ ‬لسلم‭ ‬العمارة،‭ ‬رأسها‭ ‬مدلى‭ ‬تنظر‭ ‬إلي‭ ‬الفرشة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬ينام‭ ‬عليها‭ ‬أبوها‭ ‬تحت‭ ‬وتبكي‭ ‬،‭ ‬ومدام‭ ‬جانيت‭ ‬تواسيها‭ ‬وتجذبها‭ ‬لتدخل‭ ‬الشقة‭ ‬ثم‭ ‬تيأس‭ ‬منها‭ ‬فتتركها‭ ‬وتعود‭ ‬إليها‭ ‬بعد‭ ‬ساعة‭ ‬إلي‭ ‬أن‭ ‬وجدتها‭ ‬نائمة‭ ‬تقريبا‭ ‬وقد‭ ‬أسندت‭ ‬خدها‭ ‬إلي‭ ‬حديد‭ ‬السور‭ ‬فسحبتها‭ ‬من‭ ‬يدها‭ ‬إلي‭ ‬الداخل‭ . ‬بقيت‭  ‬هدى‭ ‬في‭ ‬الشقة‭ ‬،‭ ‬وموريس‭ ‬وجانيت‭ ‬يطيبان‭ ‬خاطرها‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬بالكلمات‭ ‬وقطع‭ ‬الحلوى‭ ‬حتى‭ ‬كفت‭ ‬عن‭ ‬البكاء‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬وبدأت‭ ‬تختلس‭ ‬النظر‭ ‬إلي‭ ‬لقطات‭ ‬من‭ ‬أفلام‭ ‬التلفزيون‭ ‬وهي‭ ‬تمسح‭ ‬أنفها‭ ‬في‭ ‬كمها‭. ‬وحين‭ ‬صارت‭ ‬إقامة‭ ‬هدى‭ ‬عند‭ ‬الأستاذ‭ ‬موريس‭ ‬أمرا‭ ‬مسلما‭ ‬به،‭ ‬اشترت‭ ‬لها‭ ‬مدام‭ ‬جانيت‭ ‬من‭ ‬ممر‭ ‬الراعي‭ ‬الصالح‭ ‬فستانا‭ ‬وحذاء‭ ‬جديدين وبدأت‭ ‬تخرج‭ ‬معها‭ ‬وتمسك‭ ‬بيدها‭ ‬بحرص‭ ‬وهما‭ ‬تعبران‭ ‬الشارع،‭ ‬وبعد‭ ‬فترة‭ ‬أخذت‭ ‬جانيت‭ ‬تفكر‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬سرير‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الحجرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬،‭ ‬وحين‭ ‬مضى‭ ‬على‭ ‬وجودها‭ ‬شهر‭ ‬كامل‭ ‬قالت‭ ‬جانيت‭ ‬لموريس‭ ‬بحنان‭ : ‬إيه‭ ‬رأيك‭ ‬لو‭ ‬دخلنا‭ ‬هدى‭ ‬مدرسة‭ ‬قريبة‭ ‬؟‭ .‬

  ‬مساء‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬عرج‭ ‬موريس‭ ‬على‭ ‬صيدلية‭ ‬بركات‭ ‬المجاورة‭ ‬ليشتري‭ ‬علبة‭ ‬أنسولين،‭ ‬فغمزه‭ ‬د‭ .‬مصطفى‭ ‬الصيدلي‭ ‬وهو‭ ‬يفتش‭ ‬عن‭ ‬الدواء‭ ‬بسؤال‭ ‬عابر‭ : ‬أخبار‭ ‬البنت‭ ‬هدى‭ ‬إيه‭ ‬يا‭ ‬أستاذ‭ ‬موريس؟‭ ‬مش‭ ‬الحمد‭ ‬لله‭ ‬بخير؟‭ . ‬ولم‭ ‬يتوقف‭ ‬موريس‭ ‬عند‭ ‬السؤال‭ ‬طويلا‭ ‬،‭ ‬وأجاب‭ : ‬الحمد‭ ‬لله‭ . ‬مساء‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬عرج‭ ‬موريس‭ ‬على‭ ‬صيدلية‭ ‬بركات‭ ‬المجاورة‭ ‬ليشتري‭ ‬علبة‭ ‬أنسولين،‭ ‬فغمزه‭ ‬د‭ . ‬مصطفى‭ ‬الصيدلي‭ ‬وهو‭ ‬يفتش‭ ‬عن‭ ‬الدواء‭ ‬بسؤال‭ ‬عابر‭ : ‬أخبار‭ ‬البنت‭ ‬هدى‭ ‬إيه‭ ‬يا‭ ‬أستاذ‭ ‬موريس؟‭ ‬مش‭ ‬الحمد‭ ‬لله‭ ‬بخير؟‭ . ‬ولم‭ ‬يتوقف‭ ‬موريس‭ ‬عند‭ ‬السؤال‭ ‬طويلا‭ ‬،‭ ‬وأجاب‭ : ‬الحمد‭ ‬لله‭ . ‬ماشي‭ ‬الحال‭ . ‬وبعد‭ ‬يومين‭ ‬وجه‭ ‬الحاج‭ ‬عصفور‭ ‬صاحب‭ ‬محل‭ ‬العطارة‭ ‬السؤال‭ ‬ذاته‭ ‬إلي‭ ‬موريس‭ ‬لكن‭ ‬بنظرة‭ ‬ثقيلة‭ ‬باردة‭ ‬جعلت‭ ‬موريس‭ ‬يتساءل‭ : ‬إيه‭ ‬الحكاية؟‭. ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬نكش‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬موضوع‭ ‬هدى‭ ‬قائلا‭ ‬‭”‬‭ ‬موريس‭ ‬أخذ‭ ‬البنت‭ ‬الصغيرة‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬وح‭ ‬يخليها‭ ‬نصرانية،‭ ‬ح‭ ‬يربيها‭ ‬على‭ ‬طريقتهم‭!‬‭”‬،‭ ‬وتواثب‭ ‬الكلام‭ ‬من‭ ‬محل‭ ‬المكوجي‭ ‬إلي‭ ‬صاحب‭ ‬المخبز‭ ‬ومن‭ ‬دكان‭ ‬العصير‭ ‬إلي‭ ‬المقهى‭ ‬ومن‭ ‬بائعة‭ ‬اللبن‭ ‬إلي‭ ‬البيوت‭. ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الأسبوع‭ ‬سدد‭ ‬الجزار‭ ‬وهو‭ ‬يقطع‭ ‬فخذا‭ ‬بالساطور‭ ‬نظرة‭ ‬عداوة‭ ‬إلي‭ ‬موريس‭ ‬وطرح‭ ‬عليه‭ ‬السؤال‭ ‬بنبرة‭ ‬أقرب‭ ‬إلي‭ ‬المساءلة‭ ‬منها‭ ‬إلي‭ ‬التساؤل‭ . ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬أدرك‭ ‬موريس‭ ‬المقصود‭ ‬بالكلام،‭ ‬فبهت‭ ‬وتلجلج‭ ‬قائلا‭ ‬‭” ‬الحمد‭ ‬لله‭”‬‭ ‬وأسرع‭ ‬منصرفا‭. ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يستشير‭ ‬لطفي‭ ‬صديقه‭ ‬وزميله‭ ‬في‭ ‬البنك‭ ‬،‭ ‬فنصحه‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬بطرد‭ ‬البنت‭ ‬قائلا‭ ‬‭”‬بقاؤها‭ ‬عندك‭ ‬ممكن‭ ‬يعمل‭ ‬لك‭ ‬مشكلة‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬والمنطقة‭ ‬كلها‭”‬‭ . ‬جزع‭ ‬موريس‭ ‬من‭ ‬الكلمة‭ ‬‭”‬‭ ‬أطردها‭ ‬إزاي‭ ‬؟‭ ‬دي‭ ‬طفلة‭ ‬؟‭ ‬ومالهاش‭ ‬حد‭ ‬؟‭ ‬‭”‬‭ . ‬فرد‭ ‬عليه‭ ‬لطفي‭  ‬‭”‬‭ ‬سرحها‭ ‬،‭ ‬شوف‭ ‬لها‭ ‬حد‭ ‬غيرك‭ ‬تقعد‭ ‬عنده‭ ‬‭”‬‭ . ‬بسط‭ ‬موريس‭ ‬كفيه‭ ‬بحيرة‭ ‬متألما‭ ‬‭”‬‭ ‬لكن‭ ‬البنت‭ ‬بتحبنا‭ ‬أنا‭ ‬وجانيت‭ ‬ومستريحة‭ ‬معانا،كمان‭ ‬احنا‭.. ‬‭”‬‭ . ‬قاطعه‭ ‬لطفي‭ ‬بحزم‭ ‬‭”‬‭ ‬سيبك‭ ‬من‭ ‬حكاية‭ ‬الحب‭ ‬والراحة‭ ‬دي،‭ ‬المسألة‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬كده‭ ‬يا‭ ‬موريس‭”‬‭. ‬

في‭ ‬طريق‭ ‬عودته‭ ‬أحس‭ ‬موريس‭ ‬أن‭ ‬حجرا‭ ‬ثقيلا‭ ‬يهوي‭ ‬بقلبه‭ ‬فرفع‭ ‬بصره‭ ‬إلي‭ ‬السماء‭ ‬الغائمة‭ ‬بنظرة‭ ‬عتاب‭ ‬ورجاء‭ ‬وما‭ ‬أن‭ ‬دخل‭ ‬إلي‭ ‬الشارع‭ ‬حتى‭ ‬شعر‭ ‬بالأعين‭ ‬تلاحقه‭ ‬في‭ ‬صمت‭ ‬،‭ ‬تترقب‭ ‬قراره وتحثه‭ ‬عليه‭ ‬،‭ ‬وعندما‭ ‬اقترب‭ ‬من‭ ‬محل‭ ‬الجزار‭ ‬خرج‭ ‬له‭ ‬صبيه‭ ‬ودفعه‭ ‬في‭ ‬كتفه‭ ‬كأنما‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مقصود‭ ‬وتابع‭ ‬سيره‭ ‬وألقى‭ ‬الجزار‭ ‬عليه‭ ‬نظرة‭ ‬قاسية‭ ‬وهو‭ ‬يرفع‭ ‬الساطور‭ ‬ويمزق‭ ‬به‭ ‬اللحم‭ ‬والعظم‭ .‬

  ‬جلس‭ ‬موريس‭ ‬في‭ ‬الصالة‭ ‬يسأل‭ ‬نفسه‭ ‬كيف‭ ‬يطرد‭ ‬طفلة‭ ‬صغيرة‭ ‬بلا‭ ‬أهل‭ ‬ولا‭ ‬سند،‭ ‬إلي‭ ‬الضياع‭ ‬؟‭ ‬وماذا‭ ‬يقول‭ ‬لجانيت‭ ‬؟‭ ‬وللبنت‭ ‬؟‭ .‬

في‭ ‬الأيام‭ ‬التالية‭ ‬أخذ‭ ‬دوي‭ ‬كلمات‭ ‬الغمز‭ ‬واللمز‭ ‬من‭ ‬الشارع‭ ‬يصك‭ ‬أذنيه‭ ‬بقوة‭ ‬أشد وتذكر‭ ‬كلام‭ ‬لطفي‭ ‬،‭ ‬فحكى‭ ‬لجانيت‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ . ‬استمعت‭ ‬إليه‭ ‬جانيت‭ ‬واقفة‭ ‬بوجه‭ ‬مخطوف‭ ‬باهت‭ ‬ولم‭ ‬تقل‭ ‬كلمة‭ ‬،‭ ‬جلست‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬السرير‭ ‬وبكت‭ ‬طويلا‭ ‬بصوت‭ ‬مكتوم‭  ‬ثم‭ ‬نهضت‭ ‬وهي‭ ‬تجفف‭ ‬عينيها‭ ‬بيدها‭ ‬واتجهت‭ ‬إلي‭ ‬المطبخ‭ . ‬نادى‭ ‬موريس‭ ‬هدى‭ ‬فأسرعت‭ ‬إليه‭ ‬‭”‬‭ ‬نعم‭ ‬يا‭ ‬عم‭ ‬موريس‭ ‬‭” ‬ووقفت‭ ‬أمامه‭ ‬منتظرة‭ ‬في‭ ‬فستان‭ ‬أوسع‭ ‬وأطول‭ ‬مقاسا‭ . ‬مط‭ ‬شفته‭ ‬السفلى‭ ‬،‭ ‬وشبك‭ ‬أصابع‭ ‬يديه‭ ‬ولم‭ ‬يجد‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬للبنت‭ ‬الصامتة‭ ‬أخيرا‭ ‬استجمع‭ ‬موريس‭ ‬شجاعته‭ ‬وشرح‭ ‬لها‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬لطفلة‭ ‬أن‭ ‬تفهم‭ ‬أن‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تغادر‭ ‬الشقة‭. ‬البنت‭ ‬الصغيرة‭ ‬في‭ ‬الفستان‭ ‬الأوسع‭ ‬والأطول‭ ‬مقاسا‭ ‬عليها‭ ‬بكت‭ ‬ومع‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تظهر‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬عنادا‭ ‬أو‭ ‬تشبثا‭ ‬بشيء‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬هزت‭ ‬رأسها‭ ‬بنفي‭ ‬‭”‬‭ ‬لاء‭ ‬‭”‬‭. ‬وأعاد‭ ‬موريس‭ ‬ماقاله‭ ‬بكلمات‭ ‬أخرى‭ ‬فاستغربته‭ :‬‭” ‬ح‭ ‬أمشي‭ ‬فين‭ ‬؟‭ ‬أنا‭ ‬ما‭ ‬أعرفش‭ ‬حد‭ ‬،‭ ‬ومدام‭ ‬جانيت‭ ‬قالت‭ ‬لي‭ ‬ح‭ ‬أرتب‭ ‬لك‭ ‬الأوضة‭ ‬الجوانية‭ ‬؟‭”‬‭ ‬وحسما‭ ‬للوضع‭ ‬هرولت‭ ‬إلي‭ ‬جانيت‭ ‬في‭ ‬المطبخ‭ ‬‭”‬‭ ‬الحقي‭ ..‬عم‭ ‬موريس‭ ‬بيقول‭ ‬لي‭ ‬أمشي‭ !‬‭”‬‭. ‬وأشاحت‭ ‬جانيت‭ ‬بوجه‭ ‬متصلب‭ ‬كأنها‭ ‬لم‭ ‬تسمعها‭ ‬متشاغلة‭ ‬بدعك‭ ‬الأطباق‭ ‬بقوة‭. 

في‭ ‬اليوم‭ ‬الثاني‭ ‬،‭ ‬والثالث‭ ‬،‭ ‬والرابع‭ ‬،‭ ‬كرر‭ ‬موريس‭ ‬لهدى‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬،‭ ‬وأوضح‭ ‬لها‭ ‬إنه‭ ‬يحبها‭ ‬مثل‭ ‬ابنته‭ ‬بالضبط‭ ‬،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬ابنته‭ ‬،‭ ‬لكن‭ ‬هدى‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تعير‭ ‬كلماته‭ ‬أي‭ ‬اهتمام‭ . ‬تسمع‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬وتهز‭ ‬رأسها‭ ‬بنفي‭ ‬وتنصرف‭ ‬إلي‭ ‬الصالة‭ ‬تراجع‭ ‬ما‭ ‬علمته‭ ‬إياها‭ ‬مدام‭ ‬جانيت‭ ‬من‭ ‬حروف‭ ‬الكتابة‭ ‬أو‭ ‬تتفرج‭ ‬على‭ ‬التلفزيون‭. ‬مرة‭ ‬بعد‭ ‬مرة،‭ ‬وأخيرا‭ ‬لم‭ ‬يجد‭  ‬موريس‭ ‬بدا‭ ‬من‭ ‬جذبها‭ ‬بقوة‭ ‬من‭ ‬ذراعها‭ ‬وجرجرتها‭ ‬خارج‭ ‬باب‭ ‬الشقة‭ .‬

البنت‭ ‬ملتصقة‭ ‬بالباب‭ ‬المغلق‭ ‬،‭ ‬تخمشه‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬الشقة‭ ‬كالقطة‭ ‬وتبكي‭: ‬أنا‭ ‬زعلتك‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬؟‭ ‬والنبي‭ ‬دخلني‭ . ‬دخلني‭ ‬والنبي‭ ‬ياعم‭ ‬موريس‭. ‬وفرت‭ ‬دموع‭ ‬موريس‭ ‬وراء‭ ‬الباب‭ ‬المغلق‭ ‬يقول‭ : ‬ما‭ ‬أقدرش‭ ‬يا‭ ‬بنتي‭ .. ‬والعدرا‭ ‬ما‭ ‬أقدر‭ . ‬والنبي،‭ ‬والعدرا والنبي،‭ ‬والباب‭ ‬مغلق‭ ‬خلف‭ ‬كل‭ ‬ناحية‭ ‬شخص‭ ‬وحيد‭ ‬في‭ ‬أمس‭ ‬الحاجة‭ ‬للآخر‭.‬

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى