هل يحتاج الخطاب المسيحى إلى تجديد؟.. سؤال لا يرحب الأقباط كثيرًا بطرحه، رغم حالة التدهور الواضحة فى عدة مجالات مرتبطة بالخطاب والفكر المسيحى، لعل أشهرها انتشار ظاهرة الوعظ الشعبى، التى ينتمى لها عدد من الكهنة. يخلط هؤلاء الكهنة القصص بالكلام المسجوع لتكوين حِكَمٍ يعتبرها البعض صالحة كمبادئ للحياة، وكأقوالٍ مأثورة تُلقى للنصح والإرشاد، وهى تظهر بطريقة أقرب إلى «الإيفيهات» تأخذ وقتها وتمضى، ليبحث المستمع أو الموعوظ عن حكم مسجوعة جديدة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك عملية تضليل منتشرة تدمج بين ما يسمى التنمية البشرية وآيات الكتاب المقدس، فى خلط يؤدى إلى «هجين» يشوش الدماغ ولا يفيد أحدًا، وإن كان يحقق الربح والرواج. وفى وسط حالة التردى هذه، جاء برنامج «أقوال النبوة» على قناة «الحرية»، للباحث المتعمق والمتميز فى الكتاب المقدس الدكتور أكرم حبيب، ليقدم مدرسة مفقودة تمامًا، ويعطى نموذجًا عمليًا فى فهم ودراسة الكتاب المقدس، المفترض أن يكون هو العمل الأساسى لكل واعظ داخل الكنيسة، بعيدًا عن كسب المستمعين بالقصص السطحية والكلمات الرنانة وكل ما عفا عليه الزمان. جاء أكرم ليقدم درسًا عمليًا للكهنة والرهبان فى ألف باء تفسير الكتاب، بمهارة وحذق وقدرة وجهد حقيقى فى الإعداد والطرح، وليس على طريقة تفسير الماء بالماء، كما يفعل بعض الكهنة عندما يقدمون العظة التى تتضمن قراءة الإنجيل وتكرار ما جاء فى الآيات بلغة بسيطة فقط، دون أبعاد أو مقارنة ترجمات أو بحث فى معانى الكلمات باللغات الأصلية. فى البرنامج يفسر «أكرم» بطريقة جديدة شيقة يُظهر فيها محبته للبحث والعلم، وستجد هذا ظاهرًا فى غزارة المعلومات والربط التاريخى واستخدامه اللغتين العبرية والإنجليزية لأصل الآيات التى يتحدث عنها، إلى جانب مراجع نفيسة، من بينها على سبيل المثال «شخصية مصر» للدكتور جمال حمدان، وعدد كبير من المراجع الغربية المتخصصة فى علم المصريات. وبذلك ينقل أكرم مفهوم التفسير أو الوعظ من مجال التكرار والتبسيط المخل إلى مجالات أكثر رحابة، عن طريق الدخول إلى عمق الكلمات والمعانى، مسلحًا بثقافة رفيعة وبعلم الآباء المهتم بسير حياة وتراث وأقوال آباء الكنيسة الكبار. وحتى لا يظن أحد أن هذه الطريقة فى الشرح مختصة بشكل البرنامج، نقول إن هذا النهج- المفقود فى كنائسنا فى مصر- اتبعه قبلها فى سلسلة حلقات عديدة قدمت فى اجتماعات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بمدينة برايتون «جنوب لندن». وكان أكرم بالذكاء الذى جعله يبدأ حلقات برنامجه عن «مصر فى نبوة سفر إشعياء»، وتتضمن ١١ حلقة مخصصة عن مصر فقط، فى الوقت الذى يتم فيه اختصار ذلك السفر بالكامل داخل مصر، فى ربع آية تقول: «مبارك شعبى مصر». ذلك نوعٌ من الوعظ الغريب الذى يقدم فى مصر ويتجاهل فى إطار دعائى غريب بقية الحقائق وسياق الآيات والكلمات، وهو أمر مؤسف بالفعل، لأنه يقدم للمستمع أو الموعوظ ما يريد أن يسمعه فقط أو ما يبهجه، وليس الحقائق المكتوبة، كما جاءت فى السفر. ومن المنتظر أن تقدم الحلقات القادمة لـ«أكرم» تفسيرات للآيات الخاصة بالمملكة العربية والعراق وبابل وآشور وإسرائيل، وغيرها، كما أنه يُعد كتابًا عن «نبوات مصر فى سفر إشعياء». وختامًا، فإن المطلوب فى حقل تجديد الخطاب المسيحى، هو أن يتخذ الأساقفة والكهنة والرهبان والوعاظ هذا الأسلوب نموذجًا يعمم لنخرج من نفق الوعظ الشعبى المظلم.