بدأت رحلتى مع القطار منذ طفولتى، كانت بشكل متباعد وقتها لم أكن أعلم شيئاً عن القطار غير الذى يعرفه جميعنا بإنه وسيلة من وسائل النقل، ولكنه أصبح فيما بعد كالصديق حينما صار وسيلة الإنتقال المفضلة لى فى السفر كل اسبوع فى مرحلتى الجامعية وحتى وقتنا هذا .. ربما ينظر إليه البعض على إنه يُستخدم لساعات معدودة ولم يُستفاد منه غير كونه وسيلة إنتقال .. إنه فى الحقيقة يأخذك فى رحلة ممتعة تتعلم فيها أشياء ربما لم تدركها فى مكان أخر، والأغرب إنك فى القطار تتعلمها مجانا .. تتعلمها حين تجلس بجوار إمراة عجوز كانت تقوم بزيارة لإبنتها المتزوجة فى إحدى محافظات صعيد مصر، تحادثك مثل ابنها عن رحلة حبها. أخبرتنى كيف انتظرت حبيبها لسنوات طويلة، ومعاناتها مع أسرتها والتى أرادت إجبارها على الزواج من إبن العم وغيره من المتقدمين لزواجها فى ذلك الوقت، قصّت لي سنوات البكاء والإنتظار على أمل أن يرجع حبيبها من الجيش الذى التحق بالجيش المصرى قبل حرب 1967م بشهور قليلة، وقفت أمام الجميع تنتظره، تنتظره دون أن تعلم ماذا سيحدث وراء هذا الإنتظار، حتى أنهى فترة جيشة فى عام 1974م وتزوجها، حقيقة علمتنى الوفاء والحب فى أبهي صوره ... تتعلمها أيضا حين تُجالس شخص وقور، يُحدثك عن رحلة كفاح طويلة، بداية من سفره فى اواخر الثمانينات من القرن الماضى إلى العراق، ورحلة البحث عن العمل هناك، وكيف ظل شهور بلا عمل فى بلاد الغربة، وكانت قمة الفرح عندما أخبره حارس عقار بإنه يحتاج لعامل يقوم برفع الرمال لمبنى تحت الإنشاء، ظل هكذا حتى أعطاه الله الكثير، قصّ لى رحلة كفاح طويلة مليئة بالصبر، وفى النهاية تسأله، ما هوعملك الآن؟ يُجيبك بإبتسامة بسيطة ويقول مدير بنك التعمير والإسكان بأسيوط. أتعلم يا عزيزى، أن هؤلاء وغيرهم من الكثيرين الذين لم أستطع التحدث عنهم بسبب مساحة هذا المقال، بمجرد نزولهم فى محطتهم الخاصة بهم، لم أستطع أن أتذكر ملامح وجوههم جيدا، ولكن كل ما قدموه لى من نصائح ومشاعر محبة وصدق، لم ولن يُنسى، وأكبر دليل بإننى أتحدث عنهم الأن .. هؤلاء وغيرهم لا تربطنى بهم علاقة من قبل، ولكن قدموا لى أغلى ما عندهم، خبرة سنين عمرهم فى هذه الحياة، دون أن نتسائل فيما بيننا، إلى أى ديانة أو عرق ننتمى ؟.. نزل جميعهم فى محطات مختلفة تاركين أجمل بهجة، وهكذا أيضا الحياة التى نعيشها، كلا من له وقت معين ويغادرها فيه، فما أجمل أن تقدم بها كل ما هو جميل لشركائك فى هذه الحياة .. تقدم بسمة أمل لكل بائس، تمسح دمعة ألم لوجه حزين. لمسة شفاء لكل جريح، لمسة حب لقلب موجوع .. كُن شخص معحب ومعطاء يتذكره الاخرون، حقيقة يا عزيزى ، كُن مثل راكب القطار، ...