يا لها من أبّهة، بريشه الأبيض، ورقبته الطويلة، ومنقاره الأصفر الذهبي، وعيونه الكحيلة الواسعة! ما أروع منظره، وهو يسبح هادئاً كسفينة صغيرة لمت أشرعتها حولها! وما أسحر هيئته، وهو يجري بشكل قافلة من البجعات تسير الهوينا بعضها وراء البعض، رافعة رؤوسها، معتزة ببهائها! في هذا الجمال الأخاذ، قصة عظيمة عن الحياة والموت، تكتبها بريشاتها، أكبر الطيور البرمائية.. فمن عادة البجع، انه اذا طاف الشواطيء والبحار، ولم يجد طعاماً لفراخه؛ يرجع إلى عشه حزيناً عند المساء، فيمزّق صدره، ويقدم لصغاره مأكلاً من دم قلبه! وعندما يشعر باقتراب موته، فهو يغني بوجع، أغنيته الأخيرة! ألا نجد في هذا الطائر، ما يجعل غير المرئي مرئياً، فنكتشف ان السرد الإنجيلي للعشاء السري، ذكرى تضحية المسيح، يصبح حدثاً وسراً، عندما يعلن في الاحتفال بسر القربان المقدس من خلال التضرع للروح القدس؟! ألا يجعلنا نستعيد، أهمية دم المسيح المتوسل، الذي يغذينا بجسده ودمه الأقدسين، ترياقاً لضعفنا، وشفاءاً من خطايانا؟! ألا يجعلنا نشعر بالجوع لأشياء من الله، فنشتهي حياة يسوع، ونأكل بحرية من الخبز الروحي حتى الاكتفاء، مستخرجين منه الحياة، والعناصر الثمينة؟.. ألا يجعلنا نركز على جراحات المسيح المجيدة، ونجعل آلامه حدثاً يرافقنا، ويجعل حياتنا موجهة تماماً بالحب، والرجاء؟!.. ألا تجعلنا أغنيته الأخيرة، أن ننصت بخشوع، إلى ذلك الذي ترك عرشه الإلهي مدفوعاً نحو الصليب بقوة حبه، وهو يردد أحلى وأروع كلمات، وهو ينزف دم قلبه "قد أكمل"، بدلاً من أن نجعلها، حصرياً، كتعبير يطلق على آخر عمل انتجه شاعر، أو أديب، أو موسيقار، أو فنان؟!.. ألا تجعلنا طيور البجع، التي تأهلت لتلقي علينا كلمة السماء، أن نخجل لرفضنا تلك الثروة الوفيرة من التأمل في محيطات كوكبنا، في أشجار قارتنا، وفي حيوانات أرضنا؟!.. ان طيور البجع، واحدة من الأصوات السماوية، التي تدعونا؛ لكي ننحني بما يكفي لسماع شهادتها عن ذلك الذي لا يترك نفسه بلا شاهد من خليقته، ان كنا نريد، حقاً، أن نشترك في الطبيعة الإلهية؟! ...