الدجاجة أم البيضة؟ من كان سبباً في وجود الآخر؟ هي المعضلة السببية لنتيجة أي حدث بناء أو هدم في مسيرة الحياة... تُقارب معضلة نشوء الكون ورفرفة النسائم الأولى للخليقة. وبما أن الخيال والتأمل جناحا حرية الفكر، والرموز هي اللغة الأم للإنسان، ماذا لو أفردنا أشرعة التأمل في البيضة كمجسم صغير عن الكون والإنسان ومسار حياته؟ البيضة تمثل صندوق الدنيا، نرى فيها مراحل تكون الحياة، ففيها الهواء والماء والمادة الصلبة ونواة حية، فيها ظلام الليل، وبياض الضياء المتسربل إلى أجفان الكون ايقاظا لاستقبال ملكة الأنوار الشمس، فانبلاج الفجر لتنكشف كل الأماكن كأول ابصار للوليد، وتحت الشمس لا يخفى مستور... تشبه الإنسان في تكوينه المزدوج، فصورته الخارجية لا تنقل عالمه الداخلي المخفي تحت تطبقات بيئته وتجاربه واختباراته، وربما أبلغ تعبير عن هذا التشابه المثل الشعبي "يلعب بالبيضة والحجر" هو اتقان التخفي، والمراوغة الخطرة بين ما يعلنه وما يخفيه لتحقيق مآربه الذاتي. هي صغيرة الحجم، ولكنها كالحكمة ببضعة حروف متعاشقة تختزل حكايات كتبت على رزنامة الزمن... تفتح أبواب الوجدان لفخامة التواضع، فكل عظيم وكبير الشأن في هذه الحياة يبدأ صغير... فالأعمال العظيمة والابداعات القيّمة تبدأ بنواة صغيرة تحمل فيها مكتنفات غنية بالحب، وشغف للعطاء لخلق عالم يقارب إلى حدٍ ما خيال الإنسان وطموحه. كل عمل يُخرج الإنسان من قوقعة الأنا ليجد ذاته في المنفعة المتبادلة مع الأخر، وكل فكر يكسر تكلسات الجهل وظلامية العدم، لينثر كلمته شرانق فرح، كرات ضياء، براعم سلام، فيكتب فصول من الحب لهذا الكون الجميل بكل كائناته وتفاصيله المحيّرة، يكون مثل نداء الحياة عند انهيار قشرة البيضة تحت أول نقرة حب للنور وحريته. بشكلها البيضاوي الخالي من تقاطعات بداية ونهاية لحدودها، يرمز إلى استمرار الحياة إلى اللانهاية، قشرتها تمثل الموت، الفالق بين حياة مقيدة إلى بندول الزمن وحياة اللا زمن، لذلك أصبحت رمزا للقيامة وبداية حياة جديدة في الديانة المسيحية، وأيضا في الديانات والعقائد القديمة، فقدماء المصريون اعتقدوا أن إله الشمس انبعث من بيضة، وفي الزرداشتية البيضة تمثل الكون، والإله براهما ولد من بيضة في الكتب الفيدية المقدسة للديانة الهندوسية... فليس المهم من وُجد قبلا الدجاجة أم البيضة، المهم أن الحياة وجدت ليعيشها الإنسان بشغف الباحث وبإثارة المغامر، بشفافية الفنان وبصيرة المؤلف، بتأمل المتصوف وحكمة الفيلسوف، أن يعيشها بإصرار خيوط الشمس لقهر برودة البيوت المنسية، ولو كان من ثقب حفرته قطرات المطر على جدرانها... فلتتقارب الصورة ولتتشابه بين انسان خصب العطاء الإنساني والحضاري، دافعه الحب لذاته المخبئ من ميراث العصور، ولكون يستوعب هذا الحب بكرم، وبين البيضة الخصبة تُخلق حياة من حياة، لا كبيضة عقيمة تمنح الحياة لمرة واحدة.