في بداية التسعينيات من القرن الماضي، ومع إنتشار القنوات الفضائية المختلفة، والتي تتبعها تلك المنافسة الشرسة بينها على من سيحوذ نسبة المشاهدة الأعلى، ظهرت جمله شهيرة ترددها غالبية هذه القنوات، فعند كل توقف إعلاني او كما يسمونه فاصل إعلاني ، يطلق المذيع جملته الشهيرة التي سئمنا سماعها ، إذ يقول وتلك الابتسامة تعلو وجهه ،، "أوعى تغير المحطة"!! هذا الشعار الذي تردد كثيراً على مسامعي ، أثار ذهولي في البداية ، لماذا تطلب مني هذا الطلب؟، لماذا لا تترك قيمة ما تقول أو تعرض هي الدافع لي لأستمر على متابعة برنامجك؟ ،، ثم إن كنت، كما تدعي، تُقدم الأفضل، فماذا يُضيرك أن أشاهد سواك؟ ، ألن يكون هذا شهادة تثبت أحقيتك بالمشاهدة وتميزك إن عدت لمشاهدتك بعد أن ألقيت نظرة على منافسيك؟؟ ،، كنت أعلم في قرارة نفسي أن هذه الجملة التي يرددها المذيع أو مُقدم البرنامج لا تتعلق من قريب أو بعيد بجدية أو جودة ما يقدمه. إن كل ما في الأمر هو ذلك الصراع المحموم على شهرة أكبر ومساحة مشاهدة أوسع. لكن ماذا عنا نحن المشهدون أو المستمعون، هل ينبغي لنا بالفعل أن نذعن لهذا الطلب؟ هل ينبغي أن لا "نُغير المحطة" كما يطالبوننا؟ هل يفترض أن نظل نشاهد ونسمع نفس الأفكار ومن نفس الاشخاص؟ ماذا لو أن ما يقوله هذا البرنامج لا يعجبني؟ ماذا لو أن كلامه أو حواره مع أحدهم أثار داخل عقلي أسئلة لم يقدموا لها إجابات منطقية شافية ؟ والأخطر من هذا ماذا لو كان ما يقولونه كذباً؟ كيف سأميز كذبهم إن لم أسمع سواهم؟ وسؤالي الأخير ، وهو بيت القصيد والذي ينبغي أن نسأله لأنفسنا،، هل يحدث معنا هذا في مختلف نواحي حياتنا الفكرية وليس فقط أمام التلفاز؟ هل دؤبنا على قراءة وسماع ومشاهدة نفس الأنماط الفكرية؟ هل نطَّلع على وجهة نظر واحدة دون سواها؟ قبل أن تجيب عزيزي القاريء ، دعني أقدم لك بعض المخاطر التي قد تؤدي إليها هذه النوعية من الحياة الفكرية؛ • أولاً؛ قد ينمو بداخلك شعور بالكبرياء والتعالي لأنك تعتقد أن ما تسمع وتفكر فيه وتردده هو الحقيقة المطلقة ، وستولد بداخلك دون أن تشعر إحتقار تجاه أي شخص يقول رأي مخالفاً لما تعتقده. إذ أن ما يقوله لن يكون بالنسبة لك مجرد رأي مختلف عن رأيك ، بل سيكون هو الباطل لأنه يخالف ما تعتقد أنه الحقيقة المطلقة. ومن هنا نرى كثيراً مناقشات كثيرة تنتهي بتراشق لفظي وأهانات شخصية خارج إطار موضوع المناقشة. • ثانيا؛ عندما يأتي الوقت ، وهو سيأتي حتماً، الذي تعرف فيه شيئاً غير ما دأبت على سماعه أو يحدث فيه أمراً مخالفاً لتوقعات. ستحاول في البداية أن تناقش أو بالأحرى تجادل، لكنك ستُصدم أن منطقك ضعيف. ليس بالضرورة لأن ما أمنت به وصدقته كان كذباً، فهو قد لا يكون كذلك، لكن لأن ما أمنت به لم يتعرض للأختبار أو لتحدي فكري حقيقي ينميه ويرسخه. فكما أن العضلات الجسمية تقوى بالتمارين وحمل الأثقال، كذلك المعتقدات الفكرية تترسخ بتحديها بأفكار مختلفة وأسئلة حقيقية عميقة. • ثالثاً؛ قد يصيبك جراء كل هذا إنعدام ثقة في كل ما سمعت ، ومَن سمعت. قد تتشكك في كل ما تعلمت وعرفت حتى في أبسط الحقائق وأجلاها. بالطبع لا أتمنى لك ذلك ، لذا أدعوك عزيزي أن تبدأ من الأن!!. أدعوك أن "تُغير المحطة"،، أن تبحث في كتب أخرى، وتشاهد برامج أخرى،، أستمع لأراء مختلفة ،، حتى أني أدعوك أن تجرب أن تستمع وتستمتع إلى ألوان مختلفة من الموسيقى والفن غير التي تعودت علي وأدمنته!! لا أطلب منك أن لا تعود مطلقاً إلى ما كنت تشاهده وتحبه وتفكر فيه ، لكن حين ستفعل (بعد أن شاهدت وسمعت ورأيت الآخر ) سيكون لك رأيك الشخصي وقناعتك الراسخة الخاصة بك . ستكون هذه القناعة أقوى وأعمق وأكثر قدرة على مواجهة كل التحديات الفكرية المحيطة. سيزيد إحترامك لنفسك وللأخرين.