مقالات رأى مختلفة

عنـد بـاب القبـر ..

بقلم/ رائد نبيل

وفى‭ ‬منتصف‭ ‬الأسبوع‭ ‬الثانى‭ ‬من‭ ‬الشهر‭ ‬الماضى‭, ‬كانت‭ ‬أسرتى‭ ‬تستعد‭ ‬لبدء‭ ‬لحظات‭ ‬فرح‭ ‬وسرور‭, ‬ولِما‭ ‬لا‭ ‬فهى‭ ‬تنتظر‭ ‬ميلاد‭ ‬طفل‭ ‬جديد‭ ‬فى‭ ‬العائلة‭ .. ‬أحسست‭ ‬الفرح‭ ‬من‭ ‬مقولة‭ ‬ابن‭ ‬العم‭,‬‭ ‬تلك‭ ‬التى‭ ‬سمعتها‭ ‬حينما‭ ‬عرف‭ ‬أن‭ ‬مولوده‭ ‬سيكون‭ ‬ذكراً‭ ‬وقال‭ ” ‬إن‭ ‬عائلتنا‭ ‬ستزداد‭ ‬رجلاّ‭ ‬‭”,‬‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يتناقض‭ ‬مع‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬طفلة‭ ‬تّشبه‭ ‬أمها‭ ‬وتُصبح‭ ‬صديقتها‭ ..‬

وعند‭ ‬لحظة‭ ‬الولادة‭,‬‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تحول‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬نقيضه‭ .. ‬ظهرت‭ ‬مشاعر‭ ‬الخوف‭ ‬والتردد‭ ‬على‭ ‬الطبيب‭,‬‭ ‬فهناك‭ ‬عيب‭ ‬خلقى‭ ‬حاد‭ ‬فى‭ ‬القلب‭ ‬لدى‭ ‬الطفل‭ ‬المولود‭ ‬والحالة‭ ‬حرجة‭ ‬بشكل‭ ‬رهيب‭ .. ‬مشاعر‭ ‬الجميع‭ ‬تحتاج‭ ‬كتب‭ ‬لوصفها‭ .. ‬وهناك‭ ‬بدأت‭ ‬رحلة‭ ‬كانت‭ ‬طويلة‭ ‬للغاية‭ ‬مع‭ ‬إنها‭ ‬لا‭ ‬تتعدى‭ ‬الثلاثة‭ ‬أيام‭ .. ‬رحلة‭ ‬انتهت‭ ‬فى‭ ‬مكتب‭ ‬الصحة‭ ‬عند‭ ‬باب‭ ‬عليه‭ ‬لافتة‭ ‬مُدون‭ ‬عليها‭ ‬كلمة‭ ‬‭”‬‭ ‬وفيات‭ ‬‭”‬‭ ‬وأسفلها‭ ‬كتابة‭ ‬رديئة‭ ‬بخط‭ ‬اليد‭ ‬تقول‭  ‬the‭ ‬end‭ ” “, ‬ربما‭ ‬كتبها‭ ‬أحَدٌ‭ ‬هواة‭ ‬تدوين‭ ‬أسمائهم‭,‬‭ ‬ولكنه‭ ‬قال‭ ‬الحقيقة‭ .. ‬موظف‭ ‬جالس‭ ‬على‭ ‬مكتبه‭,‬‭ ‬فتح‭ ‬دفتر‭ ‬أخضر‭ ‬اللون‭, ‬هذا‭ ‬الذى‭ ‬تذكره‭ ‬السيدات‭ ‬فى‭ ‬صعيد‭ ‬مصر‭ ‬بلونه‭ ‬المميز‭ ‬عند‭ ‬ممارستهم‭ ‬للبكاء‭ ‬الغنائى‭ ‬فى‭ ‬المأتم‭, ‬بدا‭ ‬يتصفحه‭ ‬ليعثر‭ ‬على‭ ‬صفحة‭ ‬فارغة‭ ‬لكى‭ ‬يستخرج‭ ‬تصريح‭ ‬الدفن‭,‬‭ ‬لا‭ ‬يبالى‭ ‬بأن‭ ‬كل‭ ‬ورقة‭ ‬تمسكها‭ ‬يده‭ ‬هي‭ ‬نهاية‭ ‬عمر‭ ‬انسان‭ ‬كان‭ ‬يعيش‭ ‬هنا‭ ‬ولكنه‭ ‬فى‭ ‬تعداد‭ ‬الموتى‭ ‬الان‭,‬‭ ‬كلِ‭ ‬منهم‭ ‬له‭ ‬قصة‭ ‬لها‭ ‬أهمية‭ ‬بمقدار‭ ‬قصة‭ ‬كل‭ ‬أحَدٌ‭ ‬ممن‭ ‬يقرأ‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭ ‬عند‭ ‬نفسه‭ .. ‬النساء‭ ‬لم‭ ‬يفارقها‭ ‬البكاء‭ ‬بينما‭ ‬رجالنا‭ ‬كعادتهم‭ ‬ثابتين‭ ‬وأقوياء‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الحزن‭ ‬يقتلهم‭,‬‭ ‬بإستثناء‭ ‬أَبيه‭, ‬جده‭,‬‭ ‬وشخص‭ ‬آخَرُ‭ ‬لم‭ ‬أراه‭ ‬ضعيفاً‭ ‬من‭ ‬قبل‭,‬‭ ‬ذاك‭ ‬الذى‭ ‬علمنى‭ ‬كيف‭ ‬أصير‭ ‬قوياً‭,‬‭ ‬كان‭ ‬بكاء‭ ‬جميعهم‭ ‬مُوجِع‭ ‬للقلب‭ .. ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الطفل‭ ‬صار‭ ‬ملاكَ‭ ‬لنا‭ ‬فى‭ ‬السماء‭,‬‭ ‬يبقى‭ ‬الفراق‭ ‬كما‭ ‬قالوا‭ ‬عنه‭ ‬بإنه‭ ‬كالعين‭ ‬الجارية‭ ‬التي‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬اخضرّ‭ ‬محيطها‭ ‬نضبت‭ ..‬

فى‭ ‬طريقنا‭ ‬للمقابر‭,‬‭ ‬نظرت‭ ‬حولى‭ ‬وكأن‭ ‬شيئاُ‭ ‬لم‭ ‬يكُن‭,‬‭ ‬الفلاحون‭ ‬فى‭ ‬حقولهم‭,‬‭ ‬الرجال‭ ‬يجلسون‭ ‬فى‭ ‬المقاهى‭,‬‭ ‬أصدقاء‭ ‬يتسامرون‭,‬‭ ‬أطفال‭ ‬يلعبون‭,‬‭ ‬أُناس‭ ‬يبيعون‭ ‬وآخَرُون‭ ‬يبتاعون‭ .. ‬لم‭ ‬يدرك‭ ‬بعضهم‭ ‬أن‭ ‬موت‭ ‬أحَدٌهم‭ ‬هو‭ ‬إنذاراً‭ ‬يُخبرهم‭ ‬بأنه‭ ‬حتماً‭ ‬سترحل‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬يوماً‭ ‬ما‭ .. ‬بيننا‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الموتى‭ ‬يتحرّكون‭, ‬يتحدثون‭,‬‭ ‬يأكلون،‭ ‬يشربون،‭ ‬يضحكون،‭ ‬لكنهم‭ ‬موتى‭ ‬يمارسون‭ ‬الحياة‭ ‬بلا‭ ‬حياة‭ .. ‬دائما‭ ‬ما‭ ‬أنظر‭ ‬لأطفال‭ ‬عائلتى‭ ‬بأن‭ ‬هؤلاء‭ ‬سيحملون‭ ‬صندوقى‭ ‬للدفن‭ ‬وكذلك‭ ‬صناديق‭ ‬جيلنا‭,‬‭ ‬لا‭ ‬أكذب‭ ‬فى‭ ‬إنى‭ ‬أعاملهم‭ ‬بمحبة‭ ‬كبيرة‭,‬‭ ‬حتى‭ ‬عندما‭ ‬يأتى‭ ‬اليوم‭ ‬ليحملوننى‭ ‬لا‭ ‬يشعرون‭ ‬بأن‭ ‬الصندوق‭ ‬ثقيل‭ ‬على‭ ‬أكتافهم‭,‬‭ ‬ولكن‭ ‬الموت‭ ‬عجيب‭ ‬فها‭ ‬نحن‭ ‬ندفن‭ ‬أحَدٌ‭ ‬صغارهم‭ .. ‬

على‭ ‬أى‭ ‬حال‭,‬‭ ‬انتهى‭ ‬المطاف‭ ‬بنا‭ ‬الى‭ ‬القبر‭ .. ‬صندوق‭ ‬صغير‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلا‭ ‬لشخص‭ ‬واحد‭ ‬لحمله‭, ‬كان‭ ‬بين‭ ‬ذراعي‭ ‬حتى‭ ‬باب‭ ‬القبر‭, ‬هناك‭ ‬أعطيته‭ ‬لعمى‭ ‬الأكبر‭ ‬الذى‭ ‬دخل‭ ‬القبر‭ ‬ليضع‭ ‬الصندوق‭ ‬فى‭ ‬مكانه‭ .. ‬أمام‭ ‬القبر‭ ‬وقف‭ ‬الجميع‭,‬‭ ‬بينما‭ ‬عند‭ ‬باب‭ ‬القبر‭ ‬جلست‭ ‬وحدى‭ ‬أنتظر‭ ‬خروج‭ ‬من‭ ‬دخلوا‭ ‬القبر‭ ‬يدفنوه‭ .. ‬جلستُ‭ ‬القرفصاء‭,‬‭ ‬يداى‭ ‬تمسك‭ ‬بمقدمة‭ ‬الرأس‭ ‬تلك‭ ‬التى‭ ‬تنحنى‭ ‬لأسفل‭ ‬بعض‭ ‬الشىء‭,‬‭ ‬عيناى‭ ‬لا‭ ‬تُخرج‭ ‬دموع‭ ‬وكأنها‭ ‬أقسمت‭ ‬بإنها‭ ‬لا‭ ‬تُدمع‭ ‬إلا‭ ‬عند‭ ‬الكتابة‭ .. ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬صغيراً‭ ‬علمنى‭ ‬أبى‭ ‬بإنه‭ ‬لا‭ ‬يحق‭ ‬لأى‭ ‬أحَدٌ‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬دمعتك‭,‬‭ ‬أنت‭ ‬أكبر‭ ‬أبنائى‭ ‬فلا‭ ‬تُدمع‭ ‬مهما‭ ‬كان‭,‬‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬أخبروك‭ ‬يوماً‭ ‬برحيلى‭ .. ‬هو‭ ‬يريدنى‭ ‬قوياً‭,‬‭ ‬صدقونى‭ ‬لا‭ ‬أعلم‭ ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬صواب‭ ‬ام‭ ‬خَطَّأَ‭ ! .. ‬السكينة‭ ‬تعم‭ ‬المكان‭ ‬والقبر‭ ‬متسع‭,‬‭ ‬كانوا‭ ‬يدفنوه‭ ‬فى‭ ‬جانب‭ ‬لم‭ ‬يمكننى‭ ‬من‭ ‬رؤيتهم‭ .. ‬عيناى‭ ‬سقطت‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الصناديق‭ ‬التى‭ ‬بالداخل‭, ‬تذكرت‭ ‬كل‭ ‬أفراد‭ ‬عائلتى‭ ‬الذين‭ ‬اختطفهم‭ ‬الموت‭, ‬وقتها‭ ‬الذهن‭ ‬شرد‭ ‬بعيداً‭,‬‭ ‬استرجعتُ‭ ‬نصائحهم‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تُنسى‭,‬‭ ‬ذكرياتي‭ ‬الجميلة‭ ‬واللحظات‭ ‬الحلوة‭ ‬التي‭ ‬جمعتنى‭ ‬معهم،‭ ‬كم‭ ‬فرحنا،‭ ‬وكم‭ ‬بكينا،‭ ‬وكم‭ ‬واجهتنا‭ ‬صعوبات‭ ‬اجتزناها‭ ‬سوياً‭ .. ‬ربما‭ ‬أجسادهم‭ ‬رحلت‭ ‬عنا‭ ‬ولكن‭ ‬روحهم‭ ‬لم‭ ‬ترحل‭ ‬بعد‭ .. ‬جلوسى‭ ‬عند‭ ‬باب‭ ‬القبر‭ ‬جعلنى‭ ‬أدرك‭ ‬بأن‭ ‬الحياة‭ ‬ليست‭ ‬إلا‭ ‬أُكْذُوبَةٌ‭ ‬كبيرة‭ ‬نعيشها‭ .. ‬تم‭ ‬الدفن‭ ‬بعد‭ ‬الظهيرة‭, ‬فالشمس‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تسطع‭ ‬ونورها‭ ‬بداخل‭ ‬القبر‭ ‬عبر‭ ‬بابه‭,‬‭ ‬تتأمل‭ ‬جدران‭ ‬القبر‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬وتنظر‭ ‬لسقفه‭, ‬يشرد‭ ‬ذهنك‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬بعد‭ ‬دقائق‭ ‬سيُغلق‭ ‬الباب‭ ‬ويعم‭ ‬الظلام‭ ‬بالداخل‭, ‬الصناديق‭ ‬لا‭ ‬تشعر‭ ‬بشىء‭ ‬والموتى‭ ‬فى‭ ‬عالم‭ ‬آخَرُ‭,‬‭ ‬وتراب‭ ‬القبر‭ ‬مختلف‭ ‬له‭ ‬رائحة‭ ‬غريبة‭ .. ‬

قد‭ ‬تكون‭ ‬فترة‭ ‬قصيرة‭,‬‭ ‬ولكن‭ ‬شرد‭ ‬فيها‭ ‬عقلى‭ ‬نحو‭ ‬أمور‭ ‬كثيرة‭ ‬لم‭ ‬يُفصح‭ ‬عنها‭ ‬بعد‭ .. ‬تذكرت‭ ‬أُناس‭ ‬غرتهم‭ ‬الحياة‭,‬‭ ‬أحَدٌهم‭ ‬يخون‭ ‬ويظلم‭ ‬وآخَرُ‭ ‬يقتل‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يسرق‭ ‬وينهب‭ ‬وغيرهم‭ ‬ممن‭ ‬يفعلون‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬لا‭ ‬تُرضى‭ ‬الله‭,‬‭ ‬وتتعجب‭ ‬من‭ ‬أنهم‭ ‬تناسوا‭ ‬أن‭ ‬لعمرهم‭ ‬ميعاد‭ ‬سيقف‭ ‬عنده‭, ‬هو‭ ‬الموت‭,‬‭ ‬وعند‭ ‬النهاية‭ ‬يقولون‭ ‬ياليت‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬عمل‭ .. ‬طوبى‭ ‬لكلِ‭ ‬من‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬الموت‭ ‬ينتظره‭ ‬فى‭ ‬أى‭ ‬وقت‭,‬‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬يعرفون‭ ‬بإنهم‭ ‬ضيوف‭ ‬ههنا‭ ‬وأن‭ ‬الحياة‭ ‬ما‭ ‬هى‭ ‬إلا‭ ‬بُخَارٌ‭ ‬يظهر‭ ‬قليلاً‭ ‬ثم‭ ‬يضمحل‭, ‬يفعلون‭ ‬الخير‭ ‬كى‭ ‬يقدموه‭ ‬لله‭ ‬هناك‭ ..‬

وسط‭ ‬كل‭ ‬هذا‭,‬‭ ‬أحسست‭ ‬بعمى‭ ‬الأكبر‭ ‬ينادينى‭ ‬قائلاّ‭ ‬‭”‬‭ ‬ما‭ ‬بالك‭ ‬لا‭ ‬تسمعنى‭ ‬عندما‭ ‬أناديك‭,‬‭ ‬أعطنى‭ ‬يدك‭ ‬لأخرج‭ ‬من‭ ‬القبر‭ ‬‭”,‬‭ ‬جذبته‭ ‬للخارج‭,‬‭ ‬فسألنى‭ ‬ثانياً‭ “‬‭ ‬أين‭ ‬كان‭ ‬عقلك‭ ‬وماذا‭ ‬تذكرت؟‭ ‬‭”, ‬أَجَبْتُهُ‭ “‬‭ ‬عند‭ ‬باب‭ ‬القبر‭,‬‭ ‬لا‭ ‬تتذكر‭ ‬غير‭ ‬الله‭ .. ‬‭”‬‭ ..‬

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى