أحتفظ في قلبي بكتاب أمي الإنساني الكريم، الموحى به من قدس أقداس الأمومة، والمبشرة به في هيكل العائلة! أتأمل في أسفاره، وفصوله، وعلاماته. ألهج بسطوره الحيّة الفائضة بذهب، ولبان، ومر الذكريات! .. أفتح سفر تكويني، وأقرأ: عن قلبها الذي رآني قبل أن تراني عيناها، وأحشاؤها التي ضمتني قبل أن تضمني ذراعاها، وفكرها الذي خاطبني قبل أن تخاطبني شفتاها! وحين جئت، شكرت الرب المربي الأعظم، الذي أختارها لتكون مساعدة له في صياغة إنسان جبله على صورته، ومثاله! ومذ ذلك الوقت، صار صوتها من صوته.. فهو ملهمها، وهو قوتها! .. وأفتح سفر أعمالها، وأقرأ: عن كل رغيف أطعمتني أياه، حين تفتحت أول سن في ثغري. كان رغيفاً معجوناً بالسهر، والتعب، والآلام! وحين كنت أصعد على كتفها وعمرها، كانت هي مظلتي تحت طبقة أوزون مثقوبة! كانت تعانق كل انفعال ينفلت مني: بالحب، والحنان، والإهتمام! وفي خطواتها المباركة على درب جلجثتها، حاملة مسئوليتها، كانت تمر لحظات في حياتها، تشعر فيها بثقل الرسالة؛ فتقول قولة سيد الآلام في الجسمانية: "أيها الآب ان شئت فابعد عني هذه الكأس. ولكن لا تكن مشيئتي بل مشيئتك"! .. وأفتح سفر رؤياها، وأقرأ: صلواتها، وتمتماتها المخلصة، أن يبعث الرب فيها كل صباح نسمة من نسماته العبقرية؛ لكيما تستطيع أن تخوض مع تلاميذها، وأصدقائها، وإخوتها وأخواتها، معركة الحياة المثلى؛ فتستحق أن تجلس إلى مائدته المقدسة! كانت تعرف وقت مجيء شهود الزور، وانهيار القيم.. وقت الاستهتار بمشاعر الإنسان وكبريائه.. وقت الجوع الجماعي، والاغتصاب الجماعي للقمة، والكلمة، والحلم.. ووقت الحرب على رغيف، أو: بقعة ضوء، أو: جدول ماء...؛ فمنحتنا سلاحاً وجعبة من: محبة، وقوة، وصبر، وأخلاق.. وأعلمتنا بجهة المعركة، واسماء المحاربين. وما يزال ودها للناس، كالصدقة الجارية، سلاحنا ضد الذين يعدّون لأولادها المكائد! وما تزال ذرة واحدة من ذرات رضاها، تجعلنا ننقل جبل الصعاب إلى هناك! هذا بعض مما في كتاب أمي!