لينا خورى

تبــادل الأمـاكـن

بقلم/ لينا خورى

رسائل‭ ‬الذاكرة‭ ‬رسائل‭ ‬متحررة‭ ‬من‭ ‬أصابع‭ ‬الزمن،‭ ‬فلا‭ ‬أوراق‭ ‬مصفرّة‭ ‬ولا‭ ‬حروف‭ ‬فقدت‭ ‬ألوانها،‭ ‬حرة‭ ‬من‭ ‬حدث‭ ‬أسره‭ ‬الزمان‭ ‬أو‭ ‬المكان،‭ ‬هي‭ ‬تظهر‭ ‬فجأة‭ ‬عندما‭ ‬تفتح‭ ‬عليها‭ ‬نافذة‭ ‬من‭ ‬نظرة‭ ‬عين،‭ ‬أو‭ ‬انفراج‭ ‬لأي‭ ‬باب‭ ‬من‭ ‬المشاعر‭. ‬علوم‭ ‬الميتافيزيق‭ ‬تقول‭: ‬‭”‬لا‭ ‬يخلد‭ ‬من‭ ‬الانسان‭ ‬إلا‭ ‬ذاكرته‭”‬‭.‬

حكايات‭ ‬الطفولة،‭ ‬هي‭ ‬أول‭ ‬خطوط‭ ‬المعرفة‭ ‬لملامح‭ ‬الحياة‭ ‬القادمة،‭ ‬تنقش‭ ‬على‭ ‬جدار‭ ‬الشعور‭ ‬في‭ ‬سراديب‭ ‬ذاكرة‭ ‬بيضاء‭ ‬كقماش‭ ‬الكتان‭ ‬النقي‭ ‬للوحة‭ ‬توضع‭ ‬عليها‭ ‬ألوان‭ ‬الرسم‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬وكلما‭ ‬مرَّ‭ ‬الزمن‭ ‬وزادت‭ ‬خبرة‭ ‬الإنسان‭ ‬بالحياة‭ ‬زاد‭ ‬لوناً‭ ‬جديداً‭ ‬عليها‭ ‬لتكون‭ ‬أقرب‭ ‬لواقعه‭. ‬فلا‭ ‬يبقى‭ ‬من‭ ‬الحكاية‭ ‬إلا‭ ‬جوهرها‭ ‬الذي‭ ‬يفرض‭ ‬مكانه‭ ‬في‭ ‬الحدث‭ ‬المناسب‭ ‬له‭.‬

مَنْ‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬بحكاية‭ ‬المارد‭ ‬حبيس‭ ‬قمقم‭ ‬منسي‭ ‬لا‭ ‬تاريخ‭ ‬ولا‭ ‬مكان‭ ‬معروف‭ ‬له؟؟‭ ‬المارد‭ ‬الحبيس‭ ‬لدهور‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬الانتظار‭ ‬زاده‭ ‬اليومي‭ ‬والحرية‭ ‬حلمه‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬ثمناً‭ ‬لحياته،‭ ‬وبما‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬إلا‭ ‬الخيال‭ ‬الذي‭ ‬يزوره‭ ‬كلما‭ ‬سمع‭ ‬طنين‭ ‬قمقمه‭ ‬إن‭ ‬لامسته‭ ‬موجة‭ ‬مرحة،‭ ‬أو‭ ‬صدمته‭ ‬بحصة‭ ‬عنيدة،‭ ‬أو‭ ‬حضنه‭ ‬دفء‭ ‬الشمس‭ ‬وبريق‭ ‬كرات‭ ‬الضوء‭ ‬بين‭ ‬مرح‭ ‬أوراق‭ ‬الشجر‭… ‬حديثه‭ ‬صمت،‭ ‬والتحدث‭ ‬إليه‭ ‬ارتداد‭ ‬الصوت‭ ‬على‭ ‬جدران‭ ‬قمقمه‭. ‬لا‭ ‬نعلم‭ ‬سجنه‭ ‬باختيار‭ ‬أم‭ ‬اجبار‭! ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬تقاربه‭ ‬مراكب‭ ‬الذاكرة‭ ‬بما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬بين‭ ‬ضفتي‭ ‬جوهر‭ ‬الحكاية‭ ‬والواقع‭ ‬الحالي،‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬ميناء‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭… ‬

فرغم‭ ‬ما‭ ‬قدمته‭ ‬هذه‭ ‬الوسيلة‭ ‬من‭ ‬صورة‭ ‬مضخمة‭ ‬عن‭ ‬تقارب‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬بعضهم،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬زادت‭ ‬الهوة‭ ‬في‭ ‬غربة‭ ‬الإنسان‭ ‬عن‭ ‬خاصة‭ ‬تميزه‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬الكائنات،‭ ‬وهي‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الأخر‭ ‬بأسلوب‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬المشترك‭ ‬والمختلف،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بساطة‭ ‬الحدث‭ ‬قبل‭ ‬تعقيده،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬ليس‭ ‬بسهل‭ ‬أو‭ ‬بسيط،‭ ‬ويتم‭ ‬بضغط‭ ‬زر‭ ‬بحث‭ ‬عن‭ ‬صديق‭ ‬بمعايير‭ ‬معينة‭ ‬مناسبة‭ ‬لرؤية‭ ‬ذاتية،‭ ‬فمَن‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬يمتلك‭ ‬قبل‭ ‬دخول‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬مئات‭ ‬بل‭ ‬الألوف‭ ‬من‭ ‬الأصدقاء؟؟‭ ‬أليس‭ ‬هو‭ ‬تأطير‭ ‬لدرجة‭ ‬التصغير‭ ‬لقيمة‭ ‬الصداقة؟

مَنْ‭ ‬يفقه‭ ‬بكل‭ ‬العلوم‭ ‬ويمتلك‭ ‬الحكم‭ ‬الصائب‭ ‬بكل‭ ‬القضايا‭ ‬المؤثرة‭ ‬ومنها‭ ‬مصيري‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬البشر؟

مَنْ‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬ينتقد‭ ‬بكلامٍ‭ ‬بذيء‭ ‬يفيض‭ ‬كراهية‭ ‬لرأي‭ ‬أو‭ ‬قضية‭ ‬عرضها‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬تجمع‭ ‬اجتماعي‭ ‬أو‭ ‬ثقافي‭ ‬أو‭ ‬سياسي‭ ‬بدون‭ ‬أن‭ ‬توجه‭ ‬له‭ ‬تهمة‭ ‬انتهاك‭ ‬حق‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬رأيه،‭ ‬والذم‭ ‬الأخلاقي‭ ‬بحق‭ ‬الآخرين؟

وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬غنية‭ ‬بالفائدة‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬كسر‭ ‬قسرية‭ ‬المسافات‭ ‬البعيدة،‭ ‬في‭ ‬المعرفة‭ ‬كوجبة‭ ‬سريعة‭ ‬ولكنها‭ ‬بحاجة‭ ‬لمعالجة‭ ‬لهضمها‭ ‬وقبولها‭ ‬عقلياً‭ ‬ومنطقياً،‭ ‬في‭ ‬التبادل‭ ‬الحر‭ ‬للأفكار‭ ‬والمشاركة‭ ‬بالمعلومة‭ ‬المفيدة‭ ‬والفكرة‭ ‬الغنية‭… ‬في‭ ‬كشف‭ ‬جوانب‭ ‬مخفية‭ ‬من‭ ‬شخصيات‭ ‬عامة‭ ‬لها‭ ‬حضورها‭ ‬ودورها،‭ ‬فالبعض‭ ‬يدّعي‭ ‬الحرية‭ ‬واحترام‭ ‬رأي‭ ‬جمهوره‭ ‬وصاحب‭ ‬مبادئ‭ ‬راقية،‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يتقبل‭ ‬أي‭ ‬رأي‭ ‬في‭ ‬تعليق‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬ثغرة‭ ‬فيما‭ ‬يدعيه،‭ ‬والبعض‭ ‬الآخر‭ ‬قدم‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير‭ ‬مما‭ ‬يظن‭ ‬جمهوره‭ ‬من‭ ‬كرمٍ‭ ‬معرفي‭ ‬وعطاء‭ ‬فكري‭.‬

ولكن‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬وسيلة‭ ‬لانفلاتٍ‭ ‬من‭ ‬المعايير‭ ‬الأخلاقية،‭ ‬كتوجيه‭ ‬شتائم‭ ‬وأحكام‭ ‬بدافع‭ ‬غريزي‭ ‬أو‭ ‬تفكير‭ ‬عنيد‭ ‬بدائي‭ ‬ضيق‭… ‬حينها‭ ‬تكون‭ ‬كحلبة‭ ‬لممارسة‭ ‬القتل،‭ ‬ولكنه‭ ‬قتل‭ ‬وهمي،‭ ‬قتل‭ ‬للأخر‭ ‬بتوجيه‭ ‬الاتهامات‭ ‬أو‭ ‬شتائم‭ ‬أو‭ ‬استهتار‭ ‬وسخرية‭ ‬من‭ ‬آلم‭ ‬آخر‭ ‬مرفوض‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬عنصري‭ ‬أو‭ ‬متطرف،‭ ‬أحكام‭ ‬تطلق‭ ‬بدون‭ ‬معرفة‭ ‬أو‭ ‬إدراك‭ ‬بالحدث،‭ ‬مصدرها‭ ‬الوحيد‭ ‬هو‭ ‬الغاية‭ ‬الذاتية‭ ‬للفرد‭ ‬المتواصل‭ ‬مع‭ ‬الحدث‭.‬

الفعل‭ ‬يبدأ‭ ‬بالعقل،‭ ‬يبدأ‭ ‬وينتهي‭ ‬بالفكر‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يولد‭ ‬إلى‭ ‬الواقع،‭ ‬فالبعض‭ ‬يكره‭ ‬ويرفض‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬الشجاعة‭ ‬أو‭ ‬تمنعه‭ ‬اللباقة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬لإظهارها‭ ‬للآخرين،‭ ‬في‭ ‬وسيلة‭ ‬التواصل‭ ‬يرمي‭ ‬بكل‭ ‬كرهه‭ ‬ومخلفات‭ ‬ظنونه‭ ‬المريضة‭ ‬في‭ ‬تعليقات‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬موضوع‭ ‬يمس‭ ‬جزء‭ ‬مما‭ ‬ينقصه‭. ‬والبعض‭ ‬الآخر‭ ‬شوفانيته‭ ‬لا‭ ‬تتحمل‭ ‬أي‭ ‬رأي‭ ‬أو‭ ‬نقد‭ ‬مخالف‭ ‬لرأيه،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتقبل‭ ‬بالواقع‭ ‬مواجهة‭ ‬فكر‭ ‬مخالف‭ ‬له،‭ ‬فيمارس‭ ‬القتل‭ ‬والدفن‭ ‬الوهمي،‭ ‬بتوجيه‭ ‬حكم‭ ‬اقصاء‭ ‬لمخالفه‭ ‬ويضع‭ ‬جدار‭ ‬يمنع‭ ‬وصول‭ ‬صوته‭ ‬إليه‭.‬

الحرية‭ ‬مسؤولية‭ ‬كبيرة،‭ ‬وأولها‭ ‬إدراك‭ ‬الإنسان‭ ‬حدود‭ ‬حريته‭ ‬في‭ ‬احترام‭ ‬حرية‭ ‬غيره،‭ ‬ولا‭ ‬يقبل‭ ‬أن‭ ‬يمارس‭ ‬على‭ ‬الآخر‭ ‬ما‭ ‬يرفضه‭ ‬هو‭. ‬ومَنْ‭ ‬يدعي‭ ‬أن‭ ‬انفلات‭ ‬الغرائز‭ ‬والنوازع‭ ‬هو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬وتفريغ‭ ‬النفس‭ ‬من‭ ‬السلبيات،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يجانب‭ ‬الحقيقة‭… ‬فالحضارة‭ ‬لم‭ ‬تنشأ‭ ‬إلا‭ ‬عندما‭ ‬هذب‭ ‬الإنسان‭ ‬غرائزه‭ ‬وكبّل‭ ‬بالعقل‭ ‬نوازعه‭.‬

فإذا‭ ‬كانت‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬هي‭ ‬العالم‭ ‬الحر‭ ‬الوهمي‭ ‬الذي‭ ‬يعيشه‭ ‬الإنسان‭ ‬الحالي،‭ ‬فهل‭ ‬تبادل‭ ‬مع‭ ‬المارد‭ ‬المكان؟‭ ‬وحبسَ‭ ‬فكره‭ ‬وحرية‭ ‬تواصله‭ ‬وراء‭ ‬شاشة‭ ‬صغيرة‭. ‬يتلقى‭ ‬ويفكر‭ ‬ويتفاعل‭ ‬حسب‭ ‬رغبة‭ ‬وغاية‭ ‬من‭ ‬يحرك‭ ‬فانوسه؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى